وأخيرًا عُدتُ إلىٰ منزلي بعدَ عِشَاءِ يومِ ثلاثاء شاق؛ لأنعمَ بِجَنَّتى التى دخلتُها وأنا ظالمٌ لجَسدى من كثرةِ العملِ والحركةِ والحديثِ، تلك الراحةُ..الأطعمةُ الشهيةُ التى أحصلُ عليها وتُعدُّها زوجتي برغم عنائها في عملها كذلك، وبسمتها التي تمسح على قلبي ألفَ مرةٍ مُشعرةً إياهُ بالطُمأنينةِ السرمديةِ وكأنَّ تفاعلَ حُبَّنَا بدأَ منذُ الأزلِ …
المفتاحُ يدورُ…
المزلاجُ يتراجعُ…
صوتُ حليم في مُسجِّل زوجتي العريقِ الذي لا أعلم سبب احتفاظها به حتي الآن وهو يغني:
"وحبيبةُ قلبِكَ ياولدي نائمةٌ في قصرٍ مرصود"
وللحظاتٍ كانَ في داخلي هاتفٌ ما يردد:
"ماذا لو كان البيت الذي تجلس فيه زوجتك مرصودا وكان حليم صادقا فعلا…"
وإن يكن.. يا ترى؟… سوف نرىٰ.
إنَّ انفتاحَ البابِ كان آذاناً لمصيبةٍ ما، فقد توقف غناء حليم فجأة.. كان البيتُ مقلوبًا رأسًا على عقبْ.. المَرَايا في الصالةِ جميعها أصبحَ لونُها أسودًا، هناك رائحةٌ تُشبهُ رائحةَ المقابرِ المُميزةَ التي تَنُمُّ عنْ أنّ الموتَ قد نبشَ أجسادَ الأحياءِ.. رجفةٌ من البَردِ أصابتني فجأةً برَغمِ كمِّ الحرارةِ الذى صفعَ جسدى بمجرد أن تخطَّيتُ عتبةَ البابِ…تسرَّب بعضُ الخوفِ بداخلي ولم تمضْ لُحيظاتٌ قلائل حتى تحوَّل الخوفُ هذا إلى أعلى درجاتِ الفزعِ.
مي زوجتي .. لبنىٰ صغيرتي .. عزيز ولدي، كان الجميعُ ملقًا على الأرضِ، كلٌ مِنْهمُ مُزْرَق الوجهِ، فاغرُ الفمِ، جاحظُ العينين بلا حراك ولا نفس، الجميع قد شُجَّ رأسَهُ وتبعثرَ الدمُ في أرجاءِ المكانِ، حتَّى المَرايا كُتِبَ عليْها بالدمِ نقشٌ ظننته عشوائيًا فى بادئ الأمر.
لا أعلمُ ما دفعني لإخراجِ الجوالِ والتقاط صورة لكل منها (المرايا) وللمنزلِ ولزوجتي وصغِيريَّ
ونظرتُ للمرآة في الصالة شعرت نوعًا أنني أفهم تلك النقوش، إذ أنَّها كانتْ تتبدىٰ لناظريَّ وعقلي رويدًا رويدًا، شيئا ما يدفعني للتركيز أكثر والحملقةِ فى المرآة… وفجأةً خرجَ منها هذا الوجةُ الدميمُ مُهترئ الجلد كأن لحمَهُ إنصهر مع عظامه بفعل الجمرتين اللتين إستقرتا في مواضع تجويف العين فأفقدنى وعييَ من الرهبةِ والرجفةِ والتي علي ما يبدو أنَّها أوقفت نبض قلبى عند هذا الكم من النحس ، ليس عندي وصفًا واضحًا له أكثر من ذلك ولا أتذكرغيرَ أنِّي فقدتُ الوعيَ تمامًا وداعبَ لا وعييَ حُلْمٌ قديمٌ.
***
"حُلْمٌ قديمٌ..لتحلَّ النارَ مَحَلَّ الطِينِ"
لا أعلم لماذا حدث كل ما حدث… قد أُنذرتُ قبلها في أحلامي بتلك السيدةِ العجوزِ ذات الشعر المتطاير والهيئة المَهيبةِ والنظرة المتحدية التي ينغرس جسدك بها ألمًا وشوكًا، وهي ترتدي تلكَ العباءةُ الغجريةُ السوداء واسعة الكمين المليئةُ بالنقوشِ العجيبةِ تشبه إلى حدِ ما نفس تلك النقوش التي وجدتها فيما بعد على المرآة، وتحمل قنديلا زيتيًا ينير الضباب الذي تغلَّظَ حولها والذي إجتاحَ عالمَ أحلاميَ ليلتها وتنادي :
أقبلْ يا بن دُريَّة… أقبلْ يا بن الغاليةِ.
هرولتُ حينها نحوها وكأن الحلمَ كان حقيقة وكان لي قشة الغريق… نعم… لقد بحثتُ عن أمي مليًا، لطالما سألتُ أبي -المرحوم- عنها، ولكنه في كل مرةٍ كان يجزمُ أنها ستأتي يومًا ما؛ لتخبرني لمَ غابتْ كلَّ تلك المدةِ حتى سئِمتُ السؤالَ والبحثَ في سبيل انتظارها.
غلبَ هذا الخاطرُ لاوعيَ عقلِيَ حتَّى نادَتْ العجوزُ مرةً أُخرىٰ:
أقبل يا بن دُريَّة… أقبلْ يا بن الغالية.
حينما إقتربتُ نظرتْ إليَّ نظرةً جففتْ الدمَ في عروقيَ -إن كنت في الحلم أحمل دمًا في عروقي- وقالت :
سنحصدُ بعضَ الأعناقِ العزيزة في سبيل الوصول للحقيقة.
ستحترقُ بعض الأرواحِ لكي تصبحَ لك مكانَتَك المرجُوةُ.
ستتلاشىٰ الأجسادُ وتبقى أنت تتلوي في ضُروبِ عذابنا.
والآن نُؤجج نيران السموم، وتحلُّ النارُ محلَّ الطين.
بعد تلك الجملة اختفىٰ كلُّ شيءٍ … حتي الحُلم انتهىٰ واستيقظتُ، كانت صغيرتي لبني -ذات السنوات الأربعة- تبكي بكاءًا هستيريًا غير معلوم السبب كإصرارِها أن تنامَ علي غير عادتها بيني وبين أمها.. فقط حينَ أفقت ونظرت لها وجدتها تحملق فيَّ بعصبيةٍ شديدةٍ، وتتشبثُ بقميصِ نومِ أُمِّها في قوةٍ غيرِ مسبوقةٍ وخوف مبهمٍ لا سببًا واضحًا يُظهر ماهيته، ولكنَّ رمزَه ومصدرَه كانا واضحين كالشمس؛ لأنها اقتربتْ أكثر من أمها عندما حاولتُ أن أمسحَ علي شعرها وأمنحها بعض الهدوءِ والسكينةِ كالعادة.
***
"لقدِ كانتْ حياتي مُمِلَةً"
كان يومًا مزدحمًا شاقًا؛ فلقدِ أُرهقَ قلبيَ قبل لسانيَ الذي انشقَّ في سبيل توضيحِ بعض المعلومات القشرية في علم الكيمياء لبعض الطلاب في مراحل التعليم الثانوي وكل منهم يعتبرها طلاسم سفلية غير مفهومة مهما بسطت ومهما وضحت، فجميعُهم يخافُ (الفزياء) ولا يفهمُ (الكمياء) لتأتىَ (اللغةُ العربيةُ) وتركلهُ ركلةً مُفاجئةً في مُؤخرتة.. أقصد في درجاته.. دفاعًا عن رقةِ اللغةِ الفرنسيةِ التى أهملها إن كانَ يَدرسُ الفرنسيةَ… قد تجدني بينهم في مجموعات أجسادهم فيها مُتراصة كالسمك في عُلب السردين في مراكز الدروس الخصوصية، أو فردين فيما يزيد حتى نقترب من عشرة أفراد في غرفة إستقبال منزل أحد أُولٰئك الطُّلاب، أو حول مائدة الطعام بمنزلي والمسماة جدلًا بالـ(الصُفرة) فقط لأنَّها إرتفعت عن الأرض بمقدار متر واحد.
منزلي… كم أشتاق في نهاية اليوم لمنزلي! وسريري الذي أتركه يوميًا وأنا أرتدي قميصا جبلي اللون وبِنطالًا بُنيًا ونظَّارات تُعوض طول النظر بلا اطارات تَجعلانِي أبدو كتلاميذِ المرحلةِ الإبتدائية لولا لحيتي متوسطة النمو، ثم يناولني (عزيز) صغيري ذو السنوات الثلاثة مُفتاح سيارتي الفيات الزرقاء التي تصر كل يوم أن تُثْبت لي أنَّها ناقةٌ مُؤهلةٌ لأنْ تكونَ سفينةُ الصحراء باستثناء كونها تتعطل كلَّ ثلاثاءِ وخميسِ، وترتفع حراتها كلَّ أحدٍ وشرهه إلي حد أنها تلتهم كمًا لا بأس به من بنزين ٩٠ الفاخر لأن بنزين ٨٠ يجعلها تُكرْكِرْ.
أما أقل ما يُقال عن (عزمي أبو النور) وهو أنا بالطبع أنه متعوسٌ… خلقت التعاسة لأجلة وخلق النحس فقط ليتربص به، ولكني بدافع المتعة أحاول أن أسخر من حزني لأني لا أحب أن أحزن، ولست كمن يحاول بدافع الكبرياء أن يسخر أكثر مما يحزن؛ فلن يجلب الحزن إلا حزنًا ولن تُنتجَ السخريةُ إلا غيظَ الأقدارِ السيئة وكمًا لا بأسَ به من الضحك، وكل هذا يستند علي اليقين بأن تدابير الخالق كلها لحكمة ما، وأنا خُلقتُ في سبيلِ الحياةِ لأنزعَ الإبهامَ عن (ما) تلك.
***
"ها قد عدنا من حيثُ بدأنا".
هناك سرًا ما حول الحُلم… شيئًا مريبًا في هذا المنظر المُفزع الذي رأيته بمجرَّد دخولي من باب منزلي.. لماذا زوجتي وأولادي وما يريبك أكثر أنْ تستفيقَ علي صوت زوجتك التى شُجَّ رأسها منذُ قليل وهي تناديك :
عزمي… ما.. ماذا حدث؟ ماذا بك... ؟
مهلاً ليست هذه نظرةُ زوجتي ولا بسمتها ولا نبرة حديثها.. الشكل نفسه الصوت نفسه ولكن الروح ليستْ نفسها، هناك تَغَيُّرٌ ما حدث، ولكن دعنا نرجئ الأمر لخوفها عليَّ مؤقتًا.
و بعد سيطرة تلك الأفكار المريبة أرد في بلاهه:
ماذا…. حدث؟
وتنظر حولك لتجد أنه لا أثر لكل ما حدث، لا موتي ولا مرايا مسودة ولا دماء متناثرة، حتي حليم مازال ينعقُ في المسجل العتقيق
"نجمت وبصرت كثيرا لكني لم أقرأ أبدا فنجانا يشبه فنجانك"..
ما يجعلك تتساءل بلا توقف، وتعصف ذهنك بلا هوادةً منك، ما يدفعك كي تفقد الثقة بعقلك تمامًا أو ليس تمامًا؛ لأن الجوَّال مازال موجودًا، ووجوده في حد ذاته دفعني كمحاولةٍ بريئةٍ لأستعيد ثقتي بقوتي العقلية..
تسأل ماذا وجدت ؟
بالطبعِ وجدتُ مصيبةً، فقد كانت ذاكرة الهاتف بيضاء تمامًا كما أنتجه المصنع.. لا أرقام هواتف.. لا تطبيقات.. لا صور.. لا فيديوهات فقط ثلاثة رسائل وسائط متعددة MMS
والسؤال هنا كيف سأستئنف الشرح لطلابى بدون تلك الفيديوهات التي سهرتُ الليالىَ كي أصنعها لتسهل عليهم فهم سريان التفاعلات الكميائية؛ هنا سيطرت علي هواجسي العصبية واستشطتُ غضبًا جرَّاء ذلك المجهود الذي حذف من الجوال وحل محلة ثلاثة رسائل MMS لم يرسل مثلها أحدهم منذُ العصر الحجري، وما المحتوي الذي يستحق التضحية بمساحة تخزين تقترب من المئة والثلاثين جيجا بايت.
تبًا للنحس الذي لازمني والتعاسة التي أصرت علي صُحبتي، ولم يعجبها حنانًا في الدنيا كحناني.
يتبع…
دا حلو أوي دا عظمة جدًا 💜💜💜💜💜
ردحذفشكرا 🌸
حذف