حل مساء الخميس وقد وافق اليوم التاسع من الشهر التاسع من العام الأول بعد العشرين من الألفية الثانية..." هاهو ذلك اليوم الذي طالما انتظرناه طويلا يا فاطمة" هكذا رددت بعدما ارتديت جلبابي الناصع بياضه وزينت رأسي بلفافة خضراء كما اعتاد شباب قريتي - المسماة ب " الشرفاء "- ليلة عرسهم، اقتربت من شرفة الدار وقد تمكن الدوار من رأسي فهرولت ناحيتها علَ هواء "الشرفاء" النقي يزيل حجرًا ضخمًا قد ربض على صدري منذ أسبوعين، وللمرة الأولى تخلت نسمات القرية هي الأخرى عني..جافتني بلا أسباب...أو لأسباب أدعي جهلها، تجولت بناظري بين الأناس المحتشدين أسفل الدار، شباب يمتطون خيولهم وأعيرة نارية على وشك الانطلاق، ولمَ لا؟!..الليلة بهجة "الشرفاء" عن بكرة أبيها...الليلة عُرس زينة شباب القرية، هكذا لقبوني منذ أن بزغ نوري وهل الوحي على رأسي، وبهذا تفاخر أبي وأُكرمت أمي.
هبطتُ درجات الدرجُ الداخلي وأنا على وشك الغثيان وما أن لامست قدمي الساحة الخارجية للدار حتى دوت الأعيرة النارية المختلطة بتهليلات المحتشدين ومباركاتهم التي لم أنصت لحرف واحد منها، فقد علا الطنين بأذني وشعرت أني على وشك التقيؤ فأسرعت مترنحًا تجاه عربة تجرها الخيول أُعدت خصيصًا لتقلني من دارنا حتى دار فاطمة، ارتفع صهيل الخيول وبدأ الموكب في الزحف.
عشرون دقيقة يا فاطمة تفصلني عن الوصول إلى دارك، عشرون دقيقة طالما كانوا ثقال على فؤادي منذ الصبا، أسابق فيهم الريح حتى أراكِ ولكني للمرة الأولى أتمنى ألا تمضي الدقائق العشرون، أتمنى لو أمتلك زرًا فأوقف به الثواني، أتوسل إلى الله أن تقوم الساعة الآن، أراقب المصابيح الباهتة على ضفاف الطريق وأتخيلها تلعنني، تمكن الإعياء مني حتى أنني تقيأت ثلاث مرات أوربما أربع لم يلحظ السائرون بالموكب ذلك، فقد انكبوا مهللين بقصيدة نظموها لي لم أتبين من سطورها سوى جملة " اليوم يوم زفافه والغد سيروينا".
أتطلع بعيني النصف مغلقة بوجوههم السمراء الجيادة بالبوح عن الأمل، ويا للأسف كنت أنا وقود ذلك الأمل ونبراسه، أه يا فاطمة لو تعلمين كم كلفني ذلك الحلم!!...أه يا فاطمة لو عاد بي الزمن تالله ما خطوت تجاه ذلك الحلم قيد أنملة، بل كنت لأتخذ دوري في صف الظمأنين.
فكرة شيطانية حمقاء راودت عقلي عن نفسه فلم يقاوم ولو لحظة، مضخة مياه لم تسمع بها قريتنا ولا جوارها، ضخت بي وبأهل القرية الأمل قبل المياه، أتذكرين يوم حملوني على الأعناق بعد رفضي عرض المدينة الكبيرة المغري لشراء فكرتي وحرمان قريتي من المياه؟
أنا لا أتذكر من ذلك اليوم سوى عينيكي والفخر يتقافز بهما، لا أهتم بأناشيدهم، لا أهتم سوى بكِ أنتِ وإن أبديتُ عكس ذلك.
مات الحلمُ يا فاطمة..مات ثلاث مرات وتأوه ألاف...
غرق مرة في بحور القدر حينما مرضت والدتي ولم أجد بُدًا سوى أن أبيع ثُلث فكرتي للمدينة الكبيرة...ولكن لا بأس لن يستطيعوا تنفيذها.
مات كبدًا وهمًا مع صفعة حكمدار المدينة الكبيرة بعدما لفقوا لي التهم وأسروني على الطريق بين قريتنا الشريفة ومدينتهم العاهرة، فاضطررت يومها لبيع ثلث آخر من حلم قريتنا...ولكن لا بأس لن يستطيعوا تنفيذها...
وطُعن بتسعة وتسعين خنجرًا متلوم نصله.
حينما هددوني بفقدك...أه يا فاطمة لو تعلمين..وكأن عقلي قد كُبل وسُلب إرادته...كل ما أردته أن أحيى بسلامٍ بين أضلعك، أن أستيقظ على ابتسامة الرضا التي لم تفارق شفتيكِ يومًا، ولكن يبدو أن أمثالي غير مقدر لهم مجرد الابتسام...كنت سأفقدك يا فاطمة...كنت سأفقدك دون أن نحيى من الأعوام سبعين كما وعدتك ودون أن نحكي لأحفادنا عن حلمنا الكبير وحبنا الأكبر، لم يكن أمامي أي بديل فمنحتهم الجزء الثالث، منحتك الحياة، وسلبت نفسي كل شيء.
توقفت العربة أمام دارها، انطلقت الزغاريد ودُقت الطبول، هلت بعباءتها البيضاء والخجل قد أشعل وجنتيها تقترب مني موارية أنظارها خجلا وأنا أواريها خزيًا، وما أن استعدت لصعود العربة، حتى لاح في الأفق أحد سكان القرية وقد أتى مهرولا تجاه والدي صارخًا:
" يا كبير قريتنا قد منحك صغيرك الخزي...يا كبير قريتنا روت المياه أراضي الجوار والبور نصيبنا"
صمتت الزغاريد وحل محلها العويل، قُطعت الأناشيد وصرتُ اليوم ذليل...
لم أهتم، لم أهتم بوالدي الذي جثى على ركبتيه منكسرًا، لم أهتم بسباب أهل قريتي ولا بأياديهم التي حملتني على الأعناق منذ قليل وهي تجذبني من جوارك، لم أهتم سوى بعينيكِ وقد انطفأت لمعتهما للمرة الأولى، توجهان لي ألف اتهام وتنعتني كما نعتوني أهل قريتي بالخائن!!
نعم أنا الخائن لا محالة...وخيانتي لكِ ولهم ولنفسي من أجلك يا فاطمة لو تعلمين!!، أغمضت عينيَ مستسلمًا لنعالٍ انكبت على جسدي ورأسي ولم أشعر حتى بنصل الخنجر وهو يخترق قلبي...فقد مُت مرارًا يا فاطمة.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق