-->

عبد الصبور - قصة - مادلين عليان

 



اصطف أهل البلد شيوخ وشباب خلف عبدالصبور كل منهم يحمل نبّوته الخاص أو بندقيته القديمة، ومن خلفهم النساء يلتحفن بسوادهن ويمسكن بأوانيهن النحاسية يطرقن عليها بغطائها فتصدر لحناً، تسبقهن صيحات العويل والصراخ قائلات

-يا أهل البلد عينوه الأرض أرض أبوه

يا أهل البلد شهامة عبدالصبور أمانة

يا أهل البلد العدل عبدالصبور على حق

تثير صياحتهن الحمية فى نفوس الرجال، فيخطوا للأمام خطوة رجل واحد، بينما يتراجع الخواجات ومن معهم بمعداتهم للخلف غير عابئين بصيحات عربى ورجاءه أن يبقوا، ركبوا سياراتهم منسحبين ومن خلفهم عربى يجرى ورائهم ويلوح لهم أن يعودوا، نظر عبدالصبور لأهل البلد من حوله ورفع بندقيته فى فخر وعزة

- يا أهل الجود والشهامه أرض أجدادنا أمانة.

فردد الرجال خلفه، معانقين بعضهم البعض، وتعالت زغاريد النساء، بينما سحبت الذاكره عبدالصبور لتُدمع عيناه

-------

طرق عبدالصبور باب داره بشده فرحاً وقبل أن تجيبه الحاجه صفية كان قد دفعه ودخل ينادى بعلو صوته

-أمى...أمى عاد جندك من الجيش يا أمى.

لحظات وجاءته صفيه تهرول من أعلى الدرج المتهالك، تحمل بيدها وعاء به غلال وضعته على آخر الدرج لتفتح ذراعيها وتستقبل ضيفها الوحيد بين ضلوعها باسمة متهلله تباركه وتحفظه بدعائها وتمتمات الحمد لا تنقطع عن لسانها الذاكر، تقربه إليها تارة لتشمه وتبعده تارة آخرى لتفحصه بعينيها، جلسا على الدرج كل منهما يضم الآخر 

-كيف حالك يا ولدى وحال رفاقك.

-بخير يا أمى كلنا بخير، أوحشتينى يا أمى وأوحشنى طعامك.

ابعدته قليلاً عنها متسائله

-ألم تُطعم هناك أطعم من طعام صفيه ؟!

قبل كفها واحتضنه بين كفيه

-ما لا يُطهى بيديكى فهو بلا طعم يا أم عبدالصبور.

احمرت وجنتيها وابتسمت فى خجل

-بيّاع كلام كأبوك رحمه الله.

اتسعت ابتسامته حتى ضاقت عيناه

-لا نملك سواه لنبيعه يا أمى.

تغيرت ملامحها وتنهدت فى آسى

-تملك يا ولدى والعين على مُلكك.

ترك كفها وضيق عيناه مستفهماً، فتلفتت يميناً ويساراً واضعة يدها على فمها تخشى على وحيدها مما سيلفظ لسانها، اعتدل عبدالصبور فى جلسته وامسك ذقنها لينظر فى عينيها

-أمى إنظرى إلىّ اخبرينى بما جرى.

ابتلعت صفيه ريقها وربتت على كفه

-سأخبرك ولكن استحلفك برحمة والدك أن لا تفعل ما يُفجعنى فيك.

سرى القلق فى اوصاله فخرج صياحه عالياً مرتعشاً

-تكلمِ ماذا حدث ؟

انتفضت صفيه من صياحه وقالت على الفور

-عمك عربى سوف يبيع الأرض.

انتفض من مجلسه كمن لدغه عقرب واشتعل لهيب النيران فى صدره فخرجت أنفاسه حاره محرقه، دفع بقدمه اناء الغلال فتناثرت حبوبه على الأرض، احكم قبضته وطرق بها فاهتز الجدار من طرقته، نظر لأمه والشرر يتطاير من عينيه ثم نظر على الحائط حيث بندقية ابيه

-الأرض ثمنها غال يا أمى من يقدر على دفعه!

اندفعت صفيه ومالت على كفه تقبله 

-استحلفك برحمته لن نفرط فى أرضه ولكن بالعقل يا ولدى حتى لا تذهب أنت والأرض.

سحب كفه من بين يديها دون ان تمحو توسلاتها علامات الغضب والجمود من على وجهه، واحكم قبضته على كتفيها متسائلاً 

-من الذى تجرأ على ارضى؟

تألمت من قبضته واغمضت عينيها قبل أن تجيب 

-الخواجات.

خفت قبضته وضاقت عيناه، واسكرته الدهشه

-الخواجات!!

وما حاجة الخواجات بأرضى؟

تنهدت وربتت على كتفه موضحه

-وهل يسكن الخواجات أرض غير أرضك يا ولدى.

فعلت كلماتها به ما فعل بالغلال فعاد ليجلس على الدرج واضعاً رأسه بين كفيه وعيناه تتلألأ بالدمع

-وهل ضاقت عليهم أرض الله واتسعت لهم أرض عبدالصبور؟

اقتربت منه صفيه وجلست جواره واضعه كفها أسفل خدها 

-أرضك لن تكفيهم سيأخذون كل أرض تقع عليها أعينهم، يملكون المال يا ولدى ويشترون به الذمم والضمائر قبل الأرض وأمثال عمك عربى ما أكثرهم.

اخذ يطرق بقبضته الجدار وبقدميه الدرج 

- لا تقولى عمى من يخون الأمانة ويبيع أرض ليس بأرضه ويتأجر بأبن أخيه ليس بعم.

-حذرتك مراراً بأن تأخذ الأرض وتكتبها باسمك ولا تكن طيباً كأبيك.

هدأت حركته وطأطأ رأسه نادماً

-كنت أظنه عم.

تبسمت صفيه فى آسى

-انظر حولك يا ولدى ستجد نصف من باعوا الأرض وفرطوا فى الحق كانوا أعمام.

صمت لحظات يفكر فى كلامها ولم تصمت أسنة اللهب المشتعلة بداخله فزادت من احمرار وجهه، مال برأسه مصدقاً على كلامها، والتفت إليها فجأة متسائلاً

-وأهل البلد ماذا فعلوا؟

ضربت كفاً على كف

-لم ولن يفعلوا شيئا الأرض ليست أرضهم.

احمرت عيناه من الغضب، وركل بقدمه الإناء، وعض على كفه فى آسى

-اسفى عليهم فغداً سيأتى دورهم.

-حين يأتى غداً يحلها ألف حلال.

هب من مجلسه نحو البندقيه

-لا لن ننتظر غداً ولن يهنئوا بشبراً واحداً من أرضنا كفنا ذل وهوان.

حاولت صفيه أن تمنعه ولكن دون جدوى فلحقت به يسبقها عويلها وصراخها، اتجه قاصداً المسجد حيث تجمع أهل البلد بعد صلاة العصر، دخل متجاوزاً المصلين نحو مكبر الصوت متجاهلاً همهماتهم من حوله فاعترضه صديق عمه إمام المسجد

-أين تذهب يا عبدالصبور بيت الله له حُرمه.

نظر للمصلين من حوله متفحصاً وجوههم ثم للإمام

-لم آتى لاتعدى على حرمة البيت...ولكن جاءت لأذكركم بأن للأرض حُرمه كالبيت.

ابعد بيده الإمام وتخطى المصلين حتى وصل المنبر صعده وأمسك بالميكرفون وسط دهشة الناس من حوله 

-يا أهل البلد كفاكم خطب ومواعظ وطبقوا ما سمعتوه مرة واحدة.

 تعالت صيحاتهم بين تأدب يا ولد وبين اعذروه مقهور على أرضه فانقسم المسجد بين مؤيد ومعارض وعل به الضجيج قليلاً فاشار أن يصمتوا واكمل دون أن يلتفت لصياحهم  

-اليوم تُأخذ أرضى على مرأى ومسمع منكم جميعاً.

عادوا لهدؤهم ينصتوا فاكمل

-وغداً ستُأخذ أرضك يا خلاف، ستُأخذ أرضك يا حسين، غداً سيسكن هذه الأرض أناس غيرك ياعم عبدالصمد وأناس غير الخاله سكينه والعمه عواطف يا مسعود، غداً هذه الأرض سيكون طينها رمل ونيلها مالح وأكلها لاذع، غداً سنكون ضيوف فى أرضنا.

اعتلى الغضب وجوههم وعادت اصواتهم ترتفع وامتد اللهيب من صدر عبدالصبور ليُشعل صدورهم، لهيب لولا انهم فى بيت الله لحرق كل مؤيد لبيع الأرض، وقف رجل من بينهم يُصيح

-أرضك أرضنا يا عبدالصبور.

اجلسه من بجواره محيياً ليكمل عبدالصبور بعد أن رفع سلاحه 

-يمين بالله يا أهل البلد لن يأتى غداً وأنا حى أرزق إما أرضى وإما موتى.

هرول يحمل سلاحه إلى خارج المسجد ومن خلفه أمه وبعض النسوة يُصحن 

-يا أهل البلد عينوه الأرض أرض أبوه

يا أهل البلد شهامة عبدالصبور أمانة

يا أهل البلد العدل عبدالصبور على حق.

مادلـيـــن علــيــــان

TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *