-->

مستنقع بشري - أحلام حلمي

لا أعلم لمتى سيظل الأمر يزداد سوءًا هكذا ، فيزداد ضغطى النفسى قبل الجسدى كل يوم . أكُنت أستحق  كل هذا العناء لاختيارى للعمل فى إحدى الوحدات التى لا حول لها ولا قوه،  بالمناسبة أنا أعمل فى إحدى الوحدات فى الصعيد وكان هذا أختياري وكل وقت أوجه الندم لنفسى بأكمله وأدعو الله فى ذات الحين إن يجعله فى ميزان حساناتى . ظلت عينى تدقق النظر فى كل أرجائها، إلى جدرانها المتكسرة والتى يتسللها المطر فى الشتاء ، وإلى مشهد الممرضات وزملائي الأطباء وكيف سينطق جسدهم من التعب والإتكاء عليهم،  إلى مشهد الأدوات التعقيم ، أنظر إليها بسخريه أظن إنهم بمرور الوقت سيتم تعقيم المُعدات بمسحوق الغسيل . لكم أن تتخيلوا منظر المقاعد، الأفضل لنا ولهم أن نجلس القرفصاء ، لم أعلم أهذه مستشفى لعلاج المرضى أم مشرحة لهم ولعقابهم ، وضع سئ يُصيب قلبى بالندم مع كل شخص يتوفى ، أعلم جيداً إننى أفعل كل ما بوسعى ولكن نظرات خيبات الأمل والكسرة لا تُنسى،  لا تُنسى أبداً.. قطعت تفكيرى إحدى الممرضات لتُخبرنى بحضور أحد المتبرعين بإحضار أنبوبة أكسجين ودعونا له جميعاً على هذا الخير وطلبت منها أن تحضر لىّ كوباً من القهوة ، وفى ذلك الحين قاطعتنا إحدى الممرضات : - دكتور،  فى حالة كورونا لسه جايه حالاً وحالتها صعبة جداً. - أعتقد أن أنبوبة الأكسجين من حظه،  دخليه فوراً وجهزى كل حاجة واجهزوا فوراً ، الحالة كبيرة فى السن ولا ؟؟ -لأ للأسف يا دكتور طفل صغير ومامته هتموت عليه .. -طب واقفة بتعملى إيه ؟؟ دخليه فوراً "قطع حَديثنا ممرضة أخرى، اقتربت وهى فى حالة توتر و صاحت : -إلحق يا دكتور، فى حالة كورونا تانيه وصلت دلوقت هنعمل إيه ؟. تصلّب جسدى  فى مكانه ، ولم أعلم ماذا أفعل ، فكلاهما يجب إن يتم إنقاذه . تمالكت أعصابى وطلبت من إحدى الممرضات بإحضار  مرافقين الحالات حالاً وقبل إن أكمل طلبى دخلت المرافقة الأولى. -يا دكتور،  بالله عليك إبنى  أنا تعبت عشان أشوفه ظفره ، أبوس إيدك متحرمنيش منه قطعتها المرافقة التانية -أشمعنا أبنك يعنى، يا دكتور أنا جوزى أحق من إبنها هو اللى بيصرف على عيالى ومن غيره هنترمى فى الشارع ثم اتجهت ناحيه جهاز الأكسجين ووضعت على أنف زوجها . صرخت فى وجهها : انتِ بتعملى أيه؟؟؟ لم تلتفت إلي وصرخت : -بقولك إيه ، أنا جوزى لازم يكون كويس ، سامع ولا مش سامع . وفي حالة بكاء هستيري توسلت إلي الأم الشابة : -بالله عليكِ ، مليش إلا هو أنا تعبت فيه ، أبوس إيدك ، أنا مستعده أعمل اللى انتوا عاوزينه ، بس يبقى كويس لازم كانت الأم تنظر إلى ابنها بحسرة ، تتلمسه وتحتضنه، فارتجف جسدها و أغمضت عينها بحسرة ، لتنتفض في حالة من التهيج الشديد صارخة :   - محدش هيأخد الأكسجين غير إبنى ، وإلا اقسم بالله هرتكب فيكوا جريمة . تحول الحوار لمشاجرة من السب والشتم ، حتى امتدت الأيدي بالضرب المتبادل فيما بينهما ، لم تبق إحداهما الأخرى حتى مزقت ملابسها . عندها حاولت إحدى الممرضات إن تهدأ من روعهما، فقامتا بضربها حتى انتهى كل هذا الشجار ، بصراخ ممرضة : -مات يا دكتور،  مات .. لحظة صمت ثقيلة تعُم المكان بأكمله ، وكل منهما تتمنى إن تشتق الأرض وتبلعها، فلا أحد يعلم من المتوفى ، ظل الجميع متجمدا فى مكانه، والكل يخشى الاقتراب حتى أنا . صرخت أم الطفل وهي تمسك بذراعي الممرضة وتهزها بعنف : من ده اللى مات؟  أنطقى مين فيهم اللى مات؟بقولك أنطقى . أهتزت رأس الممرضه إلى زوجة الرجل قائله البقاء لله. سقطت الزوجة على الأرض وتعالى صياحها : جوزى ! جوزى مين اللى مات ، لا ..لا ، أكيد فى حاجة غلط ، هو قال مش هيسبنى ، انتوا أغبياء أصلاً ممكن يكون نام من التعب بس ، إنما مات ، مين ده اللى مات ، والله انتوا أغبيه. "لم تفعل شئ غير العويل وكان البكاء ينهمر منها ولم تظل فى مكانها إلا لدقائق واندفعت إلى زوجها والبكاء ينهمر من عينها قائله "فعلت كل ما بوسعى ، فعلت كل ما بوسعى" ، تركتنى؟ ماذا سأفعل بدونك ، سيأكل بجسدى الجميع كيف سيكبر أبنائنا بمفردى، لا .. أستحلفك بالله إن تفيق " -طلبت من الممرضات إن تضع جهاز الأكسجين للطفل لإيتقاذه. وانتهى الأمر بإم الطفل تصلى وتشكر الله ، زوجه الرجل جالسه فى الأرض تعوى وتصرخ بكل ما فى قلبها قائله "ليه ، يارب" .. وظللت أستند على المقاعد حتى وصلت إلى آخر ممر الوحدة ، لم أستطع الوقوف والتمالك فجلست فى الأرض ، لا أعلم ماذا أفعل؟  أذنبى هذا؟ولكنى ليس بيدي شئ. أشعر وكإن جزء من روحى مات وليس زوج المرأة قط ، فكل ما فى جسدى يستحقرنى ولكنى والله ليس بيدى شئ ماذا أفعل؟

عن الكاتب :

هناك تعليقان (2)

  1. تحفه جدا جدا و كلامك جميل اوى ما شاء الله و من نجاح ل نجاح ان شاء الله و استمرى انتي اصلا عندك طريقه في الكلام كده مميزه و اكيد هتنجحي في المجال ده ان شاء الله

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *