-->

شفق- رحمة محمد- الجزء الأول



ظلت تتأمل ملامحها بالمرآة عيناها حزينة شاردة لونهما كحبات البن وبياضها كالثلج، وجنتاها كحبتا الفراولة  
شعرها الكستنائي المنسدل علي ظهرها مموج كالبحر،  يقال ان لكل منا نصيبا من اسمه فكان لها النصيب الاكبر 
شفق، فكانت بالفعل  تنافس الشفق في جماله 
وكأنها مزجت بين اشراقة الشمس وسحر القمر 
جمالها ساحر وهادئ كغروب الشمس 
فكان كل من يراها يشعر بالسكينة والطمئنينة والنقاء 
تلألأت الدموع في عينيها البنيتان
و هربت دمعة علي وجنتيها في استسلام 
لطالما كان هناك بداخلها صراع دائم بين الاستسلام والصمود 
لم تستطع يوما ان تعبر عما بداخلها لأحد 
فهي مصابة بتلك العقدة منذ الصغر كانت والدتها تنهرها وتعاقبها عند البكاء والصراخ لتصمت حتي اعتادت علي كتمان مشاعرها، ظل فؤادها يصيح من الداخل دون ان يسمعها احد 
اصيبت بلعنة الكتمان فهي اشبه بالنزيف الداخلي لا يلحظه احد ولكن ألمه يرهق صاحبه حد الهلاك  

قطع شرودها صوت والدها ينادى عليها 
-شفق 
مسحت دموعها وغسلت وجهها سريعا 
نعم يابابا 
-اعمليلي قهوة 
-حاضر 
ذهبت لتعد القهوة وهي تردد بينها وبين ذاتها لماذا هو بعيد عني بذلك القدر، لماذا كل محادثاتنا مقتصرة علي طلبات منه فقط! لماذا معاملته معي قاسية وجافة دائما، لا اذكر انه ضمني بين ضلوعه ودللني يوما، لم يسألني عن ايامي كيف اقضيها ، لا يعلم عني شيئا، عودني علي البعد عنه والخوف منه، دائما عندما أريد أن أطلب منه شيئا أطلبه من أمي ثم تطلبه هي منه، كنت اتمني لو اشعر بالدلال من ابي كباقي الفتيات اللواتي يفتخرن بمعاملة ابائهن لهن 
ااه يا أبي لو تعلم كم أحتاجك بشدة
ولكن بيننا حواجز عالية، اكبر من استطاعتي بالاعتراف لك بذلك
انتشلها من أفكارها فوران القهوة فدخل ابيها المطبخ وقال باستهزاء 
مش عارفة تعملي فنجان قهوة! انتي مش نافعة في حاجه خالص كده! 
ردت معتذره بإحراج : أنا أسفة هعملك غيرها 
مش عايز حاجة خلاص روحي نامي 
ذهبت إلى فراشها في خيبة وحزن ظلت تحدث نفسها وتهون عليها فهي رفيقها الوحيد 
تماسكي، أهو يوم وعدي خلاص، فكري في بكرة، أكيد هيكون احسن من النهاردة، أكيد هنلاقي حاجة حلوة تفرحنا في يومنا متفقديش الامل أبدا 
اغمضت عينيها  وحاولت النوم دون تفكير حتي غلبها سلطانها 
في الصباح 

استيقظت علي صوت والدتها وهي توقظها 
-قومي ياشفق عشان تساعديني في  تنظف البيت قبل ماتنزلي الدرس 
فتحت عينيها في تثاقل وهي تنظر لوالدتها التي سلبت راحتها ثم قامت من فراشها  لتبدأ يومها بإعداد المنزل المليئ بالفوضي  بفعل أخوتها الاشقياء كعادة كل يوم 
ذهبت شفق  لدرسها فهي تدرس بالمرحلة الثانوية ولم تكن تملك الكثير من الاصدقاء لأنها ليست اجتماعية ولكن كلما تتقرب لها صديقة  كانت تتدخل والدتها لتبعدها عنها بعد ان تعتاد عليها وتحبها 
حتي انها جعلتها تأخذ دروسا خصوصية حتي لا تجتمع بباقي الفتيات فيصبحن مقربات إليها 
كانت امها تخاف عليها خوفا مرضيا يمنعها من التعامل مع البشر
تذكرت شفق نقاشهما منذ يومين عندما كانت تحاول اقناعها بالخروج مع بعض زميلاتها في المدرسة 
ياماما عشان خطري مش هتأخر انا اتخنقت من الدراسة ومن قعدة البيت نفسيتي تعبانة نفسي اشم هوا 
يابنتي هو احنا حبسينك وبنعذبك 
مالها نفسيتك دانتي الف واحده تتمني تعيش عيشتك احمدي ربنا 

نظرت لها شفق باستهزاء ثم قالت:
-هه اها الحمد لله، بس انا برده عايزة أخرج مع صحابي 
-صحابك!  انا مش قولتلك ابعدي عن البنات دي ، انا مش عوزاكي تمشي مع حد، كلهم بايظين يبنتي وهيفسدو اخلاقك  اسمعي كلامي انتي معندكيش اي تجارب في الحياة وانا خايفه عليكي  
- طب ماتسيبيني بقي اخد تجارب ولا انا هفضل طول عمري لوحدي كده 
-الموضوع ده اتقفل وده اخر كلام عندي، وبعدين مين قال انك لوحدك، مااحنا حواليكي اهو ولو عايزة تخرجي خلي اخوكي يخرجك 

نظرت لها شفق نظرة لوم وعتاب في صمت ثم ذهبت لغرفتها تبكي 

لمعت عيون شفق بالدموع وهي تتذكر ذلك الموقف لولا انها تمالكت نفسها حين افاقت علي صوت معلمها وهو يسألها 
-شفق مالك مش مركزه النهاردة ليه؟
معلش يااستاذ تعبانه شوية 
اها باين عليكي، طيب كفايه كده وروحي ارتاحي ونكمل الدرس الحصة الجاية
شكرا يا أستاذ 

عادت شفق لمنزلها  لتجد والدها يتشاجر مع والدتها ويضربها بعنف شديد وهي تصرخ مستنجدة بها حتى وقعت ارضا فاقدة للوعي 

ثم دلف هو الي غرفته في عدم اكتراث  ظل يدخن السجائر  ويتصفح الانترنت غير مبالي لما فعله بها 

لم تنصدم كثيرا فهي معتادة علي ذلك الوضع لطالما فعل بوالدتها اكثر من ذلك وقد نقلت إلى المشفى عدة مرات بسببه حتي انها كادت تموت بين يديه في احدي المرات ولكنه ظل يضربها بلا رحمة متجاهلا صرخاتها وتوسلاتها

شعرت أن أطرافها تجمدت وأصيب لسانها بالشلل لم تستطع التدخل خوفا منه، انتظرته حتي ذهب ثم جثت علي ركبتيها باكية لتحتضن امها وتحاول افاقتها  بسكب بعض قطرات الماء علي وجهها وهز جسدها افيقي يا امي، ارجوكي لا يصيبك مكروه افيقي من أجلي ومن اجل اخوتي 
-ماما قومي انتي كويسه!؟ 

فتحت عينيها ببطئ تحاول استيعاب ما حدث ثم  نظرت لعيني ابنتها بخيبة امل وقلة حيلة اجهشت بالبكاء وقالت :

-أنا أسفة يبنتي معرفتش اختارلكم أب كويس 
اوعي تكرري غلطتي ياشفق، اختاري صح ومتسمحيش للحب يعميكي، اختاري أب لولادك  

اخذتها شفق لغرفتها وحاولت تهدئتها والتخفيف عنها، لم تحاول معرفة ماحدث وما هو سبب ذلك الشجار العنيف  فهي تعلم كيف يصاب والدها بالجنون ويفقد أعصابه علي أتفه الاشياء 
ظلت شفق بجوارها حتى نامت ثم خرجت متجهة لغرفتها، لكن اوقفها صوت أنين مكتوم يأتي من ناحية الطاولة، ذهبت في خوف لتنظر تحتها بترقب وحذر وجدت اختها الصغيرة التي لم تتعد العشر سنوات   تحتضن جسدها وهي تبكي وتنتفض في ذعر 
تفاجئت شفق من منظرها فهي كانت تعتقد انها نائمة 
-حور! بتعملي ايه هنا تعالي 
لم تنطق حور ولكنها قفزت في أحضان شقيقتها وتمسكت بها بكل قوتها وجسدها مازال ينتفض
-اهدي ياحبيبتي مفيش حاجة 
ردت حور بنبرة متقطعة : هو...هوو بابا بيعمل في ماما كده ليه؟ هي معملتش حاجة
محصلش حاجة، ماما كويسة هو بابا كان متعصب شوية بس، يلا تعالي ننام 
كانت حور تعتبرها أمها الثانيهطة فهي الوحيدة التي تهتم لأمرها وسط تلك الاسرة المشتتة 
حملتها شفق لسريرها وحكت لها قصة حتي تشتت افكارها وتخلد للنوم دون تفكير بما حدث 
لطالما شعرت شفق انها تحمل علي عاتقها مسؤلية  ذلك المنزل وتلك الطفلة الصغيرة و كانت تشفق عليها وعلي نفسها من ذلك الحال تنهدت في أسى وهي تقول بداخلها
(لا يمكن ان يمر يوم بسلام دون عوائق داخلية تمزقنا 
او عوامل خارجية تحطمنا)
TAG

هناك 3 تعليقات

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *