تعجز جفونها عن الاستيقاظ
تشعر بسُكْر غريب داخل رأسها يجعلها عاجزة عن النهوض
ربما لإرتخاء جسدها وإستسلامه التام
فقد ضاجعها رجل تعشقه
في أحلامها
لا زالت تشعر بلفحات أنفاسه فوق وجهها
تشم رائحة عطره تنبعث من ثنايا جسدها
أفكارها مشتته فليست سعيدة وليست غاضبة
الحلم طويل لا تذكر تفاصيله جيداً
ولكنها كانت مستسلمة له تماماً
هل بسبب محادثته الأخيرة لها وإعلانه عن حل جميع مشاكلهم التي طالما أعاقت إرتباطهما
أم لأنها على موعد معه في الصباح الباكر حيث سيصحبها للقاء أمه التي طالما رفضت إرتباطهما
ليس لشخصها؛ بل لأنها كانت ترفض ارتباطه بأي فتاة
هذا النوع المريض من الامهات التي تتزوج ابنها نفسياً بعد أن ضحت بحياتها وشبابها من أجل تربية ولدها الوحيد
نوع يصعب معاشرته بكل تأكيد
ولكن كل شيء يلين من أجل حبيبها
أمل سليمان التي على موعد للقاء حماتها المستقبلية في التاسعة صباحاً
قررت عدم الإستيقاظ حتى يعلو صوت منبهها ليخبرها أنه قد حان الموعد
وحتى يحدث ذلك ستظل ماكثة بفراشها
مغمضة العينين
ارتفع صوت رنين هاتف أمل الخلوي لتتأوه بفراشها
شعرت برأسها تغوص ببركة رمال عميقة وهي تحاول رفعها فأبت أن تتحرك من موضعها
غصة شديدة بحلقها تدفعها إلى التقيؤ
أي حلم هذا؟
هل تحول حلمها إلى كابوس يمنعها من الحركة؟
حاولت فتح عينيها فتثاقل جفناها ليعلنا رفضهما الإمتثال لأوامرها
مدت يدها تتحسس موضع هاتفها حتى أمسكته
حملته بصعوبه وكأن وزنه تضاعف مئات المرات
"بالتأكيد هو كريم لا يطيق انتظاراً حتى لا تتأخر عن موعدهما"
ضغطت زر الفتح ومدت به نحو رأسها لتمضي أكثر من دقيقة حتى استقر فوق أذنها
كان الصوت بعيداً لا تدري متى بدأ حديثه؟
صوت لا يدرك ثقل حركتها التي تجهل سببها
صوت أنثوي هائج يقول في شماتة:
-ها قد رددت لك الصفعة صعقة
-من المتحدث؟
-ألا تعلمين من أكون ؟
بدأت أمل تهز برأسها وقد شعرت بإسترداد جزء من قوتها فعلا صوتها قليلاً وهي تسألها من جديد
-من أنتِ؟
زادت شماتتها وهي تخبرها:
-ألم تدركي فداحة ما أوقعتِ نفسك به؟
حاولت هز رأسها ليبدأ يلين معها هذه المرة...
-لا أفهم شيئاً
اقترب صوتها أكثر فبدا صادراً من أعماقها حتى أحست بأنفاسها عبر الهاتف
-استيقظي يا سيدة أمل لتري ما فعلتيه بنفسك
-استيقظي لتعيشي ألم الفقد
اليوم هو نهاية كل شيء-
حاولت أمل فتح جفنيها علها تنهي كابوسها الذي لا تفهم منه شيئاً
لم تستطع عيناها تجاوز رؤية كفها الحاملة للهاتف الذي صرخ بصوت المتحدثة
اليوم حققت انتقامي منك -
-ملك؟
-نعم أيتها الحقيرة ومن سواي ... انا ملك البغدادي التى لا ينتصر أحد عليها
-ملك البغدادي التي ثأرت لكرامتها
ما... ماذا تقصدين؟-
لن تمر الساعة حتى يفتضح أمرك لتنالي عقابك الذي تستحقيه-
وفتحت أمل عينيها
شعرت بصداع فادح يغزو رأسها ليمتد صاعقاً كل بدنها فأعادت غلقهما من جديد
حاولت الاتكاء على قبضة يدها سعياً للنهوض فخانتها لتسقط على الفراش ويسقط الهاتف من كفها الأخرى
عادت تغلق عينيها مرة أخرى مرددة داخل نفسها
"كابوس وسيزول.. كابوس وسينتهي حين أفتح عيناي من جديد"
وفتحت عينيها مرة أخري فكان الألم أقل وطئة من سابقه مع إصرار منه على غزو كل جزء بجسدها
كانت الغرفة شبه مظلمة وقد أسدلت ستائرها
هل إتسعت الغرفة أم السبب هو رأسها يجعلها ترى كل شيء أكبر من حجمه الطبيعي؟
ولكن مهلاً...
لقد اعتادت عيناها ضوء الغرفة الخافت فأخذت تتفحصها لينتفض بدنها وتصدر منها صرخة مكتومة وعيناها تخبرها
"ليست غرفتك!"
في تلك المرة دفع الخوف الأدرينالين بجسدها فساعدها على النهوض ليسقط الغطاء عن جسدها
كانت شبه عارية
تشعر بجرح لم يلتئم
أمسكت بكلتا ساقيها لتحثهما على السير نحو النافذة
بدت أشبه بآلي متحرك وهي تسير بخطوات ثقيلة نحو هدفها
ومضت الدقائق كساعات طويلة حتى دنت من هدفها فأمسكت بالستارة وكادت أن تقتلعها وهي تحاول تحريكها لتنير الغرفة
لم يكن ضوء الصباح الباكر الذي تنتظره
كانت الشمس تستعد لبدء رحيلها بعد أن أدت دورها النهاري
أخذت تعتصر ذهنها محاولة تذكر أي شيء
ثم انتفض بدنها مرة أخرى وهي تسأل نفسها
"في أي يوم أكون؟"
شدت على قبضتها لتحمس جسدها على الجهاد معها وهي تعود أدراجها نحو هاتفها الخلوي الملقى فوق أرضيه الغرفة التي تجهل كيف وصلت إليها
أمسكته لتعرف تاريخ اليوم...
السبت التاسع من شهر مارس لعام 2019
"حمداً لله إنه تاريخ اليوم"
ولكن الساعة كانت قد تجاوزت الثالثة عصراً، كما أخبرها ضوء الشمس منذ لحظات
اذن كيف مضت بها ساعات النهار؟
وأين هي؟
كاد الصداع أن يفتك برأسها وهي تحرك قدميها للعودة إلى النافذة من جديد
تطلعت إلى الشارع..
أخذت تنهل بعينيها المكان الذي تطل منه النافذة
ثم أخذت تتذكر شيئاً فشيئاً
لقد أدركت أين تكون
هذا المكان كان يفترض بها رؤيته في التاسعة صباحاً برفقة حبيبها
منزل كريم سيف الدين
وأمه
أمسكت رأسها بكلتا كفيها وأخذت تجرجر قدميها معها لتعود جالسة فوق الفراش بعد أن سترت جسدها بملابسها التي تناولتها بصعوبة من الأرض
"لم يكن حلماً؟!"
صعقت لما أخبرها به عقلها
حاولت أن تنفض الفكرة عن رأسها
ولكن شيء ما جعلها تستسلم وهي تغمض عينيها متذكرة أحداث الصباح
فجأة انجرفت جميع الأفكار والذكريات لتغزو رأسها وتحكي لها كل ما حدث
تذكرت
ارتفع صوت المنبه ليعلن بلوغ الساعة الثامنة صباحاً لتفتح أمل عينيها شبه المغلقتين
هل حقاً كانت نائمة
لقد جافاها النوم كثيراً، فلم تحظى سوى بالقليل منه
وصوت المنبه كان كفيلاً لحسم أمرها وإنهاء صراعها النفسي والبدني
نهضت لتمسك هاتفها الخلوي الذي اهتز بين يديها لتقع عيناها على اسم حبيبها
ابتسمت متنهدة وهي تضغط زر الفتح ليأتيها صوته الهادئ:
- صباح الخير يا أمل
ردت تحيته معلنة:
-أشعر أنك لم تحظى بنوم هادئ مثلي
-بالتأكيد
-ألتلك الدرجة يا كريم تخشى لقائي بأمك
شعرت بتنهيدته عبر الهاتف وهو يخبرها...
-أكثر مما تتصورين، إن خلاصي في هذا اللقاء
تعجبت لتعبيره ثم تجاهلته لتخبره في حماس...
-سأرتدي ملابسي ونلتقي حيث اتفقنا
وافقها الرأي ولم يتحدث بعدها إلا ببعض الكلمات القليلة كان أهمها...
-لا تتأخري فأنا انتظرك
أغلقت الهاتف وأسرعت نحو خزانة ملابسها تنتقي منها ثوباً خصصته للمناسبات الهامة لتستعد للقائها المصيري وهي في أبهى صورة.
أخذت شهيقاً طويلاً قبل أن تفتح الباب لتجد والدها أمامها يستقبلها بابتسامته العذبة وبكف تفيض حناناً ربت بها على وجنتها وبصوت هادئ رزين سألها:
- إلى أين يا سيادة السفيرة؟
ابتسمت أمل معلقة على قول والدها
-سفيرة مرة واحدة
أحاط عنقها بزراعه ومسح على رأسها قبل أن يقربه من شفتيه ويقبله معلناً
-بالتأكيد أفضل سفيرة، أنسيتِ أن لكل مجتهد نصيب، أنت الأولى على دفعتك لأربع سنوات
-يا أبي، لا تنسى السنة التي حرمت فيها من دخول الامتحان
-نعم؛ في سبيل ثأرك لكرامتك
نكست برأسها متذكرة تلك الفتاة التي صفعتها على وجهها بعد أن سبتها بوالدها ولقبتها بابنة الفلاح الحافي
طقطق بشفتيه معلناً:
-لا تيأسي يا بنيتي أبداً، ولا تنسي أن الدكتور عادل قد وعدك بإلحاقك بالكلية بعد حصولك على الماجستير
قالها وهو يصفق بكلتا يديه في حماس وقد اتسعت ضحكته حتى بانت نواجزه معلناً..
-وها هي فتاتي ستناقش رسالتها غداً وسيتم إعلان حصول أمل سليمان مبارك على درجة الماجستير
علا تصفيقه في تلك اللحظة ثم ضمها إليه بحب وهو يشعر أن نتاج تعبه لم يضع هباءً
خرجت الأم على صوت زوجها المرتفع معلنة بلكنتها الريفية:
-اهدئ يارجل
داعب شعر ابنته المسترسل وهو يضغط على كلماته
-أنا في قمة سعادتي
ابتسمت الأم وهي تلوم زوجها:
-فرحتي الكبرى وأنا أراها في ثوب عرسها
توردت وجنتا أمل خجلاً فاحتضنها والدها هامساً بأذنها:
-تبدين كالعروس اليوم
تخضبت وجنتاها من كشف أمرها وهي تخبره...
-لدي موعد هام
استنشق رائحة عبيرها الهادئ ليفاجئها بقوله...
-اشتم رائحة كريم سيف الدين
زالت حمرة وجنتها وتلعثم لسانها وهي تحاول اخفاء وجهتها...
-لـ...ـلا يا أبي
ربت والدها عليها وهو يخبرها بلهجة محذرة...
-من الأفضل أن تنسي هذ الشاب، لا يستحقك يا بنيتي
-أبي..
-فكري بكلماتي
قالها منصرفاً إلى حجرته تاركاً إياها في حيرة شديدة
في النهاية.. رجحت كفة قلبها
انتفضت وهي تجلس ببيت كريم حين جال أباها بخاطرها
شعرت بالإرتباك فأخذت تحك جبهتها
همس كريم إليها...
-ستصل أمي بين لحظة وأخرى، لا داعِ للقلق
-أعتقد أنها تعمدت الإنصراف
تنهد كريم وهو يجلس جوارها معلناً بحزن...
-أرجوكِ لا تظلميها لقد ذهبت للصيدلية لإستلام شحنة دواء أتت باكراً عن موعدها
نكست برأسها وأخذ عقلها يصارعها على تواجدها بهذا المكان وإغفالها رغبة والدها في الابتعاد عن كريم
اهتزت قدماها فأخذ كريم يحاول تهدئتها...
-لقد وعدتني أن تكونِ زوجتي، اقسمت على مباركتها إرتباطنا
بدأ صوته يرتجف وشعرت بإختناقه
"كيف يراوده شعور كهذا؟ أليس سعيداً باقترانه بها"
مالت عليه وربتت على كتفه فنكس برأسه وأخفى وجهه بكفيه
أنت تخيفني يا كريم؟-
مسح وجهه بكلتا كفيه ورسم ابتسامة على وجهه وهو يسألها...
-ما رأيك في تناول بعض العصير حتى تصل أمي؟
وافقته بإيماءة وانصرف ليعود حاملاً كوبين من العصير ناولها أحدهما ثم أشار لها بخنصره وابهامه معلناً...
-سأحادثها
وافقته لينصرف من أمامها ووصل إلى مسامعها صوته وهو يحادث والدته
عاد وهي تنهي مشروبها فجلس ليتناول مشروبه بدوره
ومضىت ربع الساعة وهما يتحادثان في انتظار حماة المستقبل حتى شعرت بخدر يتسلل إلى رأسها وارتخاء في أعصابها ورغبة شديدة في التقيؤ
اخذت تهز برأسها وهي ترى ابتسامته تتلاشى ولمحت دمعة انسدلت من عينه قبل أن ينهض ويسوقها نحو غرفته
واستسلمت له كلياً
لم تصرخ ولم ترفض ولم ترغب حتى أيضاً
تركته ينهل منها
دون أدنى مقاومة
عادت أمل إلى واقعها المرير لتزداد غصة حلقها الذي نازعها على إخراج مكنونات معدتها
وفشلت مرة أخرى
أخذت تسعل بشدة
ومن جديد لم تصرخ، لم تبكي
كانت مشاعرها متخبطة
لا زال عقلها لا يصدق
وقفت لتترنح بموضعها محاولة إقناع عقلها أن ما تحياه هو كابوس
ولكن هيهات لقد تجسدت الحقيقة أمامها
ساعدت قدميها على النهوض لتفتح باب الغرفة
ورأته
يجلس بكامل ملابسه ينتظرها
إتسعت حدقتاها وهي تنظر إليه ممسكة برأسها
بدت عيناه دامعتين وهو ينتفض واقفاً منكساً برأسه
حاولت الإقتراب منه، والغصة تزداد بحلقها وشعرت بأمعائها تكاد أن تنفجر
حتى خرج صوته...
-أنا آسف
أغمضت عينيها تسأل نفسها..."هل يغتصب رجل إحداهن ثم يعتذر"
دمعت عيناه من جديد وهو يتمتم...
- كان الأمر رغماً عني
هزت برأسها المترنح وتركته يكمل حديثه
-لم تنسى ملك البغدادي صفعتك لها
-صـ... صفعة؟! مـ... ملك؟!
-نعم؛ كانت تتصيد فرصة للقضاء عليكِ
بدت البلاهة التامة عليها وكلماته تسترسل منه دون توقف
-لم يكفيها أن حرمتك من التعيين بالجامعة، لقد احترقت كمداً بعد تسجيلك للماجستير، وجُنت بعد معرفتها برغبة د. عادل بتعيينك بالجامعة
خذلتها قدماها فخارت جالسة على الأرض
أسرع كريم محاولاً انهاضها فبرقت عيناها وهي تتحاشاه بجسدها لتمنعه من لمسها
جلس أمامها وهو يخبرها بألم
-كانت تدرك جيداً حبي لكِ
تقلصت عضلات حلقها محاولة إخراج مكنوناتها ولكن محاولتها باءت بالفشل للمرة الـ..؟
-تحبني؟
-اقسم لكِ
-شش... لقد قمت باغتصابي
-لقد نصبت لنا فخاً
-من؟
-ملك البغدادي؛ أنسيتيها؟
انتفض عقلها يذكرها بمكالمتها التي استيقظت عليها فتمتمت بوهن...
-أنا لا أفهم شيئاً
-ملك البغدادي التي تطاولت عليك وسبتك فصفعتيها على وجهها أمامنا جميعاً
سخرت من نفسها وهي تتذكر تلك الاحداث للمرة الثانية خلال ساعة واحدة
-لقد حُرمت من...
قاطعته بقولها
-بالطبع أذكرها لقد ضاع مستقبلي الأكاديمي بسببها
نكس برأسه متذكراً ما قام به لتوه فجاء صوته يتخلله الخزي وهو يخبرها...
-لقد نصبت لأمي فخاً؛ سلطت عليها رجلاً كان يبتاع منها أدوية (جدول)، مضت شهور طويلة حتى اعتادته أمي فقامت الحقيرة بتنفيذ مخططها؛ الحقيرة استأجرته مع عدد من البلاغات الكيدية حتي... حتى...
بدا التساؤل في عين أمل الواهنة حتى انطلقت الدموع من مقلتي كريم وهويخبرها
- قُبض على أمي
لم تشهق أمل ولم تظهر أي رد فعل، كان الوهن والخدر ما زالا يسيطرا عليها، كل ما فعلته هو سؤاله..
-وما ذنبي؟ وذنبك؟
عجز كريم عن رفع رأسه وهو يكمل جريمته في حقها
-لقد ساومتني على فعل ما فعلت مقابل إخراج أمي
وبصوت متراخي أعلنت...
-أنتم أنذال
حاول الاقتراب منها وهو يتحدث هامساً لها وكأن هناك من يسمعهما...
-سنتزوج
ومن جديد اشتدت الغصة بحلقها واخذت تسعل بشدة فأسرع يجلب إليها كوباً من الماء مد به إليها فأطاحت به في وجهه وهي تسأله
-هل تصدق تناولي أي شيء مرة اخرى؟
-سامحيني
-أنت مجنون
شعرت بالصداع يدمر خلايا رأسها وكلما ازداد استيقظ عقلها فسألته وهي تمسك رأسها بكلتا يديها...
-بما سقيتني؟
Gamma- hydroxyl butyric acid-
أخذت تضغط على جانبي رأسها بسبابتها وإبهامها ليردف قوله
-إنه علاج لإضطرابات النوم وضعته لك بالعصير
كادت أن تدمع عيناها ولكنها فشلت في تحرير دمعتها فاكتفت بقول
-أنت حقير
حاولت النهوض ليرتفع رنين هاتفها فضغطت زر الرد ليأتيها صوت ملك للمرة الثانية
-تطلعي إلى رسائلك عبر (الواتس آب) أعددت مفاجأة لك
ماذا تريدين؟-
إنها مجرد صفعة -
لقد انتقمت سابقاً وتسببتِ في إسقاط حقي في التعيين-
لم أكتفي أبداً، لن يشفي غليلي سوى أن أفقدك كرامتك، أجعلك -لا تصلحين لأي حياة
-ماذا تقصدين؟
-اطلعي على رسائلك وستعرفين أي شيء سيصل إلى أبيكِ وجامعتك المحترمة
انتهت المكالمة لتقع عيناها على كريم المنكمش بموضعه متمنياً أن يتلاشى في تلك اللحظة
قرأت الحسرة والندم بعينيه، أدركت تمامًا أن كارثة حقيقة تم إعدادها لها، كارثة تتخطى إغتصابها
ومن جديد رفضت جميع أجزاء بدنها إبداء أي تعبير عن مشاعرها
وفي ظل تأرجحها بين تصديق ما حدث أو إنكاره
فتحت هاتفها لتطلع على الرسالة المزعومة
لم تكن مجرد رسالة
كان مقطع فيديو يحمل كارثة
مقطع يحمل تفريطها بشرفها وشرف أهلها
دون أن يكشف الفاعل بها
بكى كريم وجثا على ركبتيه متوسلاً
وأخيراً وجدت دموعها سبيلاً لخروجها
انطلقت تعدو هاربة من مقلتيها
تناثرت منسكبة بعد أن حُبست طويلاً
هرولت بعيداً عن جسد تمت لعنته
ازدادت الغصة بحلقها حتى شعرت أنها بلغت الحلقوم واستعدت لمفارقة روحها جسدها عن طيب خاطر
ومضت لحظات أخذت تناجي روحها لتخرج.. ولكنها لم تفعل
وعلى النقيض خرجت مكنونات معدتها بكل قوة
تقيأت على تلك الأرض التي خطتها بإرادة مطلقة منها
باباً عبرته معتقدة نيلها كل شيء ولكنها دلفته لتخسر كل شيء
ومن جديد مضت الدقائق حتى انتهت من إفراغ معدتها المسكينة لتنطلق منها صرخة مدوية ويصرخ معها لسانها باسم أقرب إنسان إلى قلبها
-أبــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــي
استطاعت صرختها أن توقظها
ذهب عنها ضعفها
نهضت محاولة رمي حبيبها بأقرب ما طالته يداها
ولكنه أفلت منها بعد أن فشل في تهدئتها
حاولت الصراخ مرة أخرى فشعرت أنه عديم الجدوى
انطلقت قدماها تعدو مهرولة إلى الخارج
أخذت تعدو وتعدو محاولة الإبتعاد بقدر الإمكان عن هذا الجحيم
وصلت لشارع رئيسي بأنفاس متلاحقة، ودموع تأبى التوقف
علا ضجيج أبواق السيارات من حولها، نداء البائعين، رائحة العرق الممتزجة بالعطور بعد انتهاء يوم عمل طويل لكل شخص طبيعي يستعد للرحيل إلى بيته
حتى الشمس استعدت للرحيل
أما هي... فإلى أين؟
سعلت بشدة وظنت أنها ستتقيأ مرة أخرى ولكن معدتها فرغت تماماً من كل شيء
أخذت تسير إلى اللا مكان
كانت شاردة، واهنة، ضائعة
ممزقة من الداخل ومن الخارج
أضاعت كل شيء بمغادرتها هذا الصباح
ليتها ما تجاوزت باب منزلها
ليتها انصتت إلى كلمات والدها
تمتمت بصوت خافت...
-أبي
شعرت بيده الحانية تربت على كتفها
تمنت لو ضمها إلى صدره وأخبرها أن كل شيئ سيزول كما كان يفعل دائماً
لقد آمن بها دوماً
كان داعماً لها في كل لحظة
تخلى عن كل شيء من أجلها
تلبدت السماء فجأة بالغيوم لتعلن للجميع إستعدادها لزرف دموعها
حتى السماء تؤازرها
رفعت عيناها نحوها لتحتضن حبيبات المطر المتساقطة منها
شعرت بها تغزو جميع بدنها لتغتسل من إثمها وذنوبها
فتحت فمها لتتمضمض وتنثر كل آثار ما حمله جوفها
مرت دقائق حتى هدأت السماء وبدأ الزحام يغزو الشارع من جديد
وظلت هائمة
أغمضت عينيها متذكرة شريط طويل من الاحداث مرت بها
كان أهمها هو حصولها على الثانوية العامة بمجموع يؤهلها لدخول ما ترغب
فتحت عينيها لتلقي نظرة على الطريق
وجدت نفسها أمام نهر النيل
وقفت على الكوبري تشاهد بداية إنهاء الشمس رحلتها اليومية
أخذت شهيقاً طويلاً وألقت نظرة نحو هذا القرص المتوهج بلونه الممتزج بين الأصفر والبرتقالي ثم أغمضت عينيها من جديد لتغوص بنهر ذكرياتها
-ماذا قررت يا سعادة السفيرة؟
بدا الخجل على أمل وهي تضع طرف سبابتها اليمنى بفمها فضحك سليمان معلناً
-أعلم جيداً ما يجول بخاطرك
-أسدلت كفها متحدثة بصوت هامس.. لن توافق أمي على سفري إلى القاهرة
بالطبع سترفض وأنا أؤيدها بشدة-
بدت خيبة الأمل على أمل التي أشاحت بوجهها لتنسكب الدموع من عينيها
ولكن يمكن لجميعنا أن نسافر معاً-
استدارت لترتمي بحضن أبيها الذي ربت على رأسها...
-معكِ حتى نحقق حلمنا
-حقاً يا أبي
-نعم يا بنيتي، لكل مجتهد نصيب وأنت تستحقين بعد كل ما بذلتيه من جهد
-ولكن أمي سترفض
-لا تقلقي لقد اتفقت على بيع الأرض سنشتري بثمنها مسكناً وما يمكن أن يعيلنا طيلة فترة دراستك
أخذت تغوص في حضن أبيها أكثر وأكثر لتنسكب دموع الفرح هذه المرة فتبلل جلبابه الأبيض
دلفت الأم في تلك اللحظة متسائلة بلسان مرتاب...
-أي خطة تعدونها معاً
كادت أمل أن تخبرها فأطبق سليمان شفتيها بكفه معلناً لزوجته:
-ستلتحق أمل بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية
-سليمان
-لا تجادليني يا زينب، هذا هو حق ابنتنا علينا
-هل سنترك دارنا وأرضنا؟
جاءت اجابة سليمان حاسمة:
-سنعود إلى دارنا بعد تحقيق حلم ابنتنا
فتحت أمل عينيها لتشاهد تقلص قرص الشمس
لم تعد تسمع أصوات السيارات
كان صوت ذكرياتها هو المسيطر عليها
لم تخيب ظن والدها
كانت منكبة على دراستها تكافح ليلاً ونهاراً
تنجح بتفوق ملحوظ
جميع الأساتذة يعرفونها ويؤيدونها ويعدونها لتكمل مسيرتهم معهم ومن بعدهم
تساعد الباحثين في إعداد رسائلهم مقابل أجر مادي تعين به نفسها وتخفف به العبء عن والدها
لقائها برجل أحلامها الذي أحبها وآمن بها، لم يعيبه سوى أمه المتعلقة به بشكل مرضي، ولكنها طالما طمأنت نفسها أنها لن تعيش طويلاً وأنه سيأتي اليوم الذي تتوقف فيه عن محاربتها
كانت كل الظروف تؤيدها
حتى ظهرت ملك
ربما كانت موجودة منذ البداية
ولكنها لم تنتبه إليها في بادئ الأمر
كانت مجرد طاووساً يفرد جناحيه وذيله مستعرضاً جماله الزائل مع صوته الكريه
لقد شوهت نفسها الخبيثة جمالها
مجرد متسلطة تحتمي في سلطة والدها
كانت كشيطان أقسم على سلبها حلمها
عضت شفتها وراودتها غصة حلقها من جديد
تتبعت قرص الشمس الذي بدأ إنهاء أحداث نهارها الدامي
زادت حمرته
كان يدمي لجرحها
شعرت بحرقته كحرقتها
أغمضت عينيها للمرة الأخيرة قبل اختفائه متذكرة كلمات والدها الدافئة
-وهذا أيضاً سيزول، ثقي بأن لكل مجتهد نصيب
أما والدتها فكانت تحاول تهدئتها بقول مختلف تماماً:
-لن ينال أحد أكثر من نصيبه فلا تحزني
وللمرة الـ...؟ التي لا تدري عددها رجحت كافة أبيها وعاد إليها أملها من جديد
فتحت عينيها لتشاهد ما تبقى من قرص الشمس
لم يبقى منه سوى خط رفيع يفصل بين النهار والليل
كالخط الرفيع الذي كان يفصلها عن تحقيق حلمها وحلم والدها
خط أشعلته نيران حقد ملك
وندالة كريم
وتهورها ورفضها الإنصات لوالدها
خط أنهى كل شيء
وزاد عليه تدمير حياتها وشرفها
حادثة تشهد الله أنها لم تمتلك الإرادة لرفضها
ربما أخطأت ولكنها لم تقصد أن تفعل ذلك
لو علمت ما يدبره كريم ما ذهبت إليه أبداً
ولكن هيهات.. لن يفيد البكاء على اللبن المسكوب
لقد سكبت دماء شرفها
وتم تصويرها
وسيفضح أمرها
لن يتحمل والدها
ستموت والدتها حسرة
ووالدها؟
لن يصدق
سينكر قلبه فعلتها
بالتأكيد هو يعرف ابنته جيداً
يعرفها أكثر من نفسها
ولكن ما تحمله النفوس لا يلغي ما تراه العيون
لن يتحمل
انهمرت الدموع من عينيها
شاهدت المشهد الأخير لرحيل الشمس
تذكرت ما فعله كريم
كلمات ملك
ثم والديها
لقد دمرت حياتها وحياة أقرب الناس إليها
ضاع كل شيء
فقدت حياتها وكرامتها
سيعيش والدها منكساً الرأس
أطبقت قبضتها لتلكم رأسها الذي لم يسيطر على قلبها ويمنعه من الذهاب
لن يعود الزمن بها أبداً
ولن تسترد عفتها ولا كرامتها
ولن يردع ملك شيء عن فضح أمرها
ربما لو ماتت قبلاً لنسيتها
قطعت أفكارها ليؤيد قلبها فكرة عقلها
ربما لو ماتت لتراجعت
هل يمكن لموتها أن يردع ملك عن فضح أمرها
ماذا ستستفيد بعد موتها
ربما يشفي غليلها أكثر وأكثر
أعتلت الكوبري وهي تشعر بسقوط الشمس داخل النهر
لقد سبقتها
شعرت بحرارة المياة
لقد تقدمتها لتدفئها لها
وللمرة الأخيرة رفعت عينيها صوب السماء تدعو الله في خلدها ألا يفضح أمرها وأن تكتفي ملك برحيلها الأبدي
"لن أدعوك يارب كي تسامحني بل أنا أقبل أن أحترق بنارك وأشوى بها ولا يحترق قلبي والدي
لا تصفح عني ولكن ارفق بوالدي ورقق قلب ملك وانزعني من طيات عقلها
لا أريد جنات تجري من تحتها الأنهار سأقبل بالغرق في مياه الحياة الدنيا
لا تطعمني فاكهة ورمان بل أطعمني لكل ما يحمله النهر من حيوات
كل ما أطلبه منك ألا تجعل الحسرة والخزي من نصيب أبي
إجعله يعيش مرفوع الرأس
أما أنا فسأنهي حياتي بهذا النهر"
مها شتا
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق