-->

مركز الأصدقاء-قصة- أسماء حمودة ‏



مركز الأصدقاء

يا الله، ما هذا الصوت المزعج؟ آااه إنه المنبه الذي يطرق فوق رأسي يوميًا ليوقظني فأذهب إلى الجحيم، نعم إنه جحيمًا بالنسبة لي وليس مكانًا للعلم وتكوين العلاقات فقد تخطيت هذه المرحلة منذ عدة أسابيع.

- صباح الخير يا أستاذ فارس

- صباح الخير يا رضا

تلك التحية التي أسمعها كل صباح من مربيتي الفاضلة ودائمًا ما تقترن هذه التحية مع وجبة إفطار رائعة أعدت لي، فهذه هي حياتي آمر فقط وكل من حولي ينفذون، لا أساعد أحد بشئ ودائمًا قدمي على القدم الأخرى وأنا آمرهم، أحبهم جميعًا السيدة رضا والطباخ ومقدم الطعام ولكني لا أستطيع أن أساوي بيني وبينهم فهذا ما علمتني إياه السيدة حنان درويش – أمي – وهكذا استمررت في حياتي إلى الآن، وبالرغم من أن أصدقائي من مختلف الطوائف فأنا لست ملتزمًا بطبقة معينة ولكني أعلم تمام العلم أنهم لا يعملون لدي لذا لا حكم لي عليهم ولذلك استمرت صداقتي بهم قرابة أربعة سنوات في كلية الآداب قسم علم النفس بجامعة القاهرة.

وعندما وصلنا لنهاية العام، وأصبح يتعين علينا القيام بمشروع للتخرج فكرت وقتها وبطريقة غريبة أن أخوض تجربة لطالما تمنيت أن أخوضها، لطالما أردت أن أكتشف أسوأ ما في نفسي وأنفس الآخرين، تساءلت هل وراء الوجوه وجوه أشد رعبًا لم نعلم عنها شئ؟ لذا قررت أن أطرح على أصدقائي الثلاث مشروعًا غريبًا، جميعنا جيدون في عمل الأبحاث والطباعة وتصوير المستندات وكنا نتنافس فيمن سيجعل بحثه الأجمل أثناء الدارسة، لذا اقترحت عليهم القيام بذلك المشروع والجميع متساوون فيه بالرغم من أنني أستطيع التكفل بالمشروع كاملًا ولكننا وزعنا رأس المال بالتساوي بيننا واتفقنا أن كلًا منا سيقوم بالإدارة لمدة أسبوع وسيفعل ما بدا له دون أي تذمر من الباقين وبالفعل أجرنا مكانًا بالقرب من الجامعة وأسميناه مركز (friends) وهكذا رضينا بالاتفاق، وهكذا اكتشفت أسوأ ما في نفسي.

لقد كنت متخيلًا أن قصة السادة والعبيد لا تخرج خارج منزلي وذلك لطبيعة العلاقة بيني وبين العاملين بالمنزل منذ الصغر، ولكن ما إن توليت إدارة المركز حتى طفحت تلك الغريزة على السطح، أصبحت أعملهم مثلما أعامل مربيتي وطباخي ومقدم الطعام بالمنزل، آمر وهم ينفذون ولا أسمح لهم بأن ينادوني هكذا باسمي فقط وكنت أتذمر كثيرًا على من يناديني بـ (فارس فقط) دون لقب أستاذ، لا أساعد رغم معرفتي التامة بالأمر وأحيانًا آمرهم بأشياء خارج نطاق العمل كأن يشتروا لي الفطور أو السجائر مثلًا، أدركت أنه كما يقولون (من شب على شئ شاب عليه) أدركت أن أسوأ ما في نفسي هو ما زرعته أمي بي.

***

ها أنا أقف أمام مرآتي وأعدل ثيابي كما كل يوم، منذ ذلك الأسبوع الذي أدرت فيه المركز وأنا لا أستطيع وضع عيني بعين نفسي بالمرآة، لقد كانت حادثة واحدة أثرت على باقي حياتي وعلاقاتي وقلبي وعقلي، ما زلت أحتفظ بتلك الصورة معلقة على الحائط في غرفتي – صورتي مع أمين صديقي منذ الإعدادية – ولكن احتفاظي بها ليس من باب المحبة ولكن لأتذكر ذلك الدرس الذي علمني إياه، أحببته منذ صغري وأدخلته منزلي وأمنته على أشيائي وملابسي فقد كنا نتشارك كل شئ ولا أتذمر قط من استمتاعه بأخذ أشيائي بل على العكس كنت أفرح بهذا فهو أخي ليس صديقًا فقط، لسوء الحظ دخلنا كليات مختلفة ولكن ما زالت صداقتنا مستمرة وأقوى من ذي قبل، عندما أحببت أول من أخبرته كان هو – أمين – كنت أحكي له عن تفاصيلنا دون خجل وكان أحيانًا يصلح بيننا وقتما تحدث تلك المناوشات بيننا، وعندما حدثت بيننا مشكلة كبيرة لم نستطع حلها في ذلك الوقت تحديدًا تدخل بيننا لينهي كل شئ، كرجل شرقي قلت لها تلك الجملة التي تهين أي امرأة خاصة إذا كانت محترمة مثلها عندما طلبت مني التقدم لها قلت :

- وأنا ايش عرفني انك مخرجتيش مع غيري قبلي؟

نعم أعترف أن لدي تلك العقلية، ولكني تراجعت فورًا أقسم أنني تراجعت وقررت التقدم لها في اسرع وقت ولكنه سبقني وقال لها أنني لم أحبها من الأساس وأدخل في عقلها أنني كنت أغرر بها لذا ابتعدت عني تمامًا، ثم رايته يحاول التقرب منها وكأنه أراد أن يقاسمني هذه أيضًا ولكن لأنها محترمة ابتعدت عنه تمامًا ورفضته ولكنها إلى الآن ترفضني أيضًا ولا تريد أن تعد لي بأي حال من الأحوال وعلمت بعد ذلك بخطبتها وكانت هذه القاضية، فذلك الصديق حاول أن يقتسم معي ما لا يقبل القسمة، وحبيبتي خُطبت ولكن لا أستطيع لومها.

منذ ذلك اليوم قررت ألا أعطي شيئًا لأحد ولا أجعل أشيائي تقبل القسمة، هؤلاء أصدقائي الثلاثة عرفتهم منذ أول سنة بالجامعة ولم أر منهم غير كل خير، حتى فتحنا ذلك المركز وخرج من فارس تلك الشخصية التسلطية والتي تعتبر الجميع عبيدًا لها، ولكن تلك الشخصية لم تكن مزعجة بقدري فقد خرج مني رجل عكس اسمي تمامًا، خرج مني شخصًا شحيحًا لم يستطع حتى أن يقبل قسمة ذلك الإيراد الذي يخرج يوميًا من المركز بالعدل مع اصدقاءه مع العلم أنه كان يعطيهم الكثير من العمل وكأنهم يعملون بالسخرة، والحقيقة أن ما فعله فارس كان بسيطًا مقارنة بما فعله ذلك الشخص الذي خرج مني.

- يلا يا كريم عشان الفطار

ها هي أمي تناديني لوجبتي المفضلة معها وأبي، فبالرغم من كل شئ لا زالا هما معي فقط ولا أقتسم أشيائي إلا مع كلاهما.

***

هكذا أنا أضع عويناتي، هادئ الطباع ولا أتحدث كثيرًا وعندما أتحدث لا تخرج مني تلك الألفاظ الغير لائقة، لم يكرهني أحد قط ولم يكن لي أعداء، هذا ما يظهر علي فقط فأنا كنت لا أريد أن يظهر ما بداخلي على الآخرين فيقولون أن والده لم يربه جيدًا أو أنه مثل والده تمامًا، لطالما كنت أريد أن أتبرأ من ذلك الأب الذي لا يفعل شئ سوى السب والشتم لأمي والضرب والإهانة، وأردت ان أتبرأ من تلك الأم الضعيفة التي تسمع وتطيع رجلًا يهينها ولا تتخذ موقفًا، هذا هو ما كبرت عليه ورأيته بأم عيني منذ كنت بالرابعة من عمري، بالرغم من معاملة أبي لأمي إلا أنه كان لديه الكثير من الحنان لي وكأنه لديه انفصام بالشخصية ولأني قد ربيت على كرهه لما يفعله، لذا قررت أن أتبرأ منهم بأخلاقي ثم بجسدي فيما بعد عندما أستطيع الوقوف على قدمي وأنهي دراستي.

حدث ذلك الاتفاق وأدرت المركز في الأسبوع الثالث من بداية المشروع، وها أنا تخرج مني شخصية غريبة ومريبة تشبه شخصية ذلك الرجل الذي لطالما كرهته، وجدت نفسي أسب وألعن كلما أخطأ أحدهم وإذا تجادل أي منهم معي لا يجد مني سوى يدي التي تضربه بكل قوة، جمعت بين إجبارهم على الكثير من الأعمال مع السب والإهانة، فارس وتسلطه وكريم وبخله لم يكونا شئ فيما فعلته أنا، لا اعرف من أين أتت تلك الشخصية ولا أعرف كيف سأواجههم اليوم فهذا هو اليوم الذي سيقيم به أستاذنا مشروعات التخرج خاصتنا والتي دامت مدة التحضير لها شهرًا كاملًا، أعتقد أنه لن يصبح لي أصدقاء بعد اليوم وسيصبح صديقي الوحيد ذلك الطبيب النفسي الذي قررت الذهاب إليه فور ما انتهى ذلك الأسبوع المشئوم.

- يلا يا أسامة عشان أوصلك في سكتي

هذا هو والدي والذي كرهته أضعاف بعدما رأيت مني ما يشبهه، لا أعرف كيف أركب معه سيارته كل يوم وأنا لا أستطيع حتى النظر إلى وجهه.

***

يا الله ثلاثتهم يدخلون إلى المحاضرة عابسين، وأعرف أنني لن أستطيع فك شفرة الحزن على وجوههم لما واجهوه من شخصيات خفية لم يُعرف عنها شئ خلال السنوات الماضية، لقد تفاجأت بهم حقًا ولكني تفاجأت بنفسي أكثر، سأحاول تلطيف الجو قليلًا قبل أن يدخل الأستاذ :

- عيال هو الدكتور اتأخر ليه .. يلا يستحسن ميجيش مش عايز اعرف عملنا ايه

ها هو فارس ينظر لي بسخرية ويقول :

- هي لسة فارقة معاك حكاية الدرجات دي؟

- طبعًا مش تعبنا واتبهدلنا شهر بحاله عشان نوصل لنتيجة كويسة

نظر لي من وراء عويناته بإشفاق : 

- إسلام أعتقد ان انت الوحيد اللي فارق معاك حوار الدرجات دة الموضوع خلاص ملوش لازمة

- طب الدكتور جه أمنيتي متحققتش للأسف

يا الله تخيفني نظرة الجدية التي ينظرها لنا هذا الأستاذ وها هو يبدأ الحديث :

- طبعًا انتو كلكم هايلين وعملتوا تجارب رائعة على فئات مختلفة من البشر وأنا بحييكم ومشروعاتكم كلها إن شاء الله بين امتياز وجيد جدًا عشان تبقوا مطمئنين .. لكن يا ولاد أنا عايز أدي امتياز مع مرتبة الشرف لمشروع مركز الأصدقاء بتاع فارس وكريم وأسامة وإسلام .. ممكن تخرجوا وتيجوا عندي هنا ع المنصة؟

هل من المعقول أنه يثني علينا؟! أعتقد أن معه حق فما فعلناه كان مجنونًا بالفعل، ها نحن نذهب تباعًا ويضه الأستاذ يده على أكتافنا ويقول بفخر :

- الشباب اللي معانا معملوش تجارب على فئة من فئات المجتمع لا دول عملوا التجربة على نفسهم حاولوا يعرفوا نفسهم أكتر ويعرفوا أسوأ ما فيهم .. هما شافوا من نفسهم ظلمة ورعب وخافوا من نفسهم مش من حد تاني .. أنا بحييكم وبقولكم انتو عرفتوا نفسكوا أحسن وهتحاولوا تصلحوا منها أكيد يا شباب مشروعكم بالذات امتياز مع مرتبة الشرف

يضطر فارس وكريم وأسامة للابتسام أما أنا فأبتسم حقًا وكدت أبكي من فرط فرحتي اليوم، واليوم وبعد انتهاء هذه المحاضرة سأقوم بكل جهدي كي لا نفترق.

***

انتهت المحاضرة ويحاول الجميع الهروب بأسرع ما يمكنه ولكني استوقفتهم وقررت أن أحاول المحاولة المحاولة الأولى والأخيرة لعدم إهدار هذه الأربعة سنوات هباء، جمعتهم وجلسنا في الكافيتيريا سويًا، وها هو فارس يبدأ بالحديث :

- إسلام .. انت بتحاول تجمعنا بس احنا نفوسنا شالت من نفسنا ومن بعض وانا الحقيقة مش عارف انت ازاي محاولتش تنتقم؟!

أخذت نفسًا عميقًا قبل أن أقول :

- أنا عايز أقولكم اني كنت محضر لكل واحد فيكو انتقام شكل وكنت عايز انفذهم كلهم .. لكن بابا كعادته صحاني ف أول يوم لإدارتي انزل اصلي معاه الفجر ف المسجد والغريب اني كنت بتلاكع ومش بنزل معاه لكن المرة دي صحيت ونزلت بسرعة .. صليت عادي ورجعت نمت وانا لسة اللي ف نيتي زي ما هو .. بس وانا جاي ف الطريق حسيت اني خايف جدا بصيت ع العربيات اللي راحة وجاية وقلت هو انا لو مت بسبب عربية من دول وقلبي مليان غل كدة هيحصل ايه .. طب بلاش لو خلصت الإدارة وكنت عملت فيكم كل دة وبعدين قابلت ربنا كنت هقوله ايه؟! خفت .. لقيت نفسي خايف أوي أعمل حاجة أندم عليها أو ادخل النار بسببها .. أنا مش مثالي ولا متدين بس مش عارف صلاة الفجر ف الوقت دة عملت فيا ايه بجد والله

أرى الجميع وأعينهم تفيض بالدمع لما يسمعونه، جميعنا نخشى هذا اليوم الذي سنُسأل فيه، استطردت قائلًا : 

- أنا نفسي متبقاش دي نهاية صداقتنا احنا اتفقنا اتفاق ومحدش فينا أخل بالاتفاق دة يعني مفيش حاجة تزعل الفكرة بس ان كل واحد خرج أسوأ ما فيه ودة اللي احنا كنا عايزين نثبته إن السلطة المطلقة بتخرج أسوأ ما في النفس البشرية وان كمان نفسنا أشد ظلمة ورعب من العفاريت ذات نفسها .. أنا نفسي ننسى اللي فات ونحاول نصلح نفسنا ونكمل في المشروع دة لحد ما ربنا يكرمنا بشغل ف تخصصنا ولو محصلش أدينا لقينا شغلانة كويسة جدا .. ها قلتوا ايه؟

تفاجأت عندما رأيت الجميع يبكي أكثر ويوافقون على حديثي بشدة، كل منهم كان خائفًا من أن يصبح وحيدًا، جميعنا نحتاج إلى بعضنا البعض ونحتاج لمعالجة بعضنا البعض من تلك الشرور التي ظهرت خلال تلك التجربة واحتلت أنفسنا، نريد أن نتخلص منها ولكن معًا وليس كل منا على حدة.

ـــــــــــــ تمت بحمد الله ـــــــــــــــ

TAG

عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *