في أحد شوارع المدينة، في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، يتخلل هدوءها صوت عربات الشرطة، تسير بأنوارها تعطي إشارة القبض على المجرم أخيرًا، تتجه إلى ذاك المكان حيث يتلاقى جميع المجرمين، حيث الأربع جدران التي يُسجنون بها، يبقون فيها مع ضمائرهم فقط وندمهم وتساؤلاتهم الكثيرة عن "لماذا فعلنا هذا"..
وصلت العربات إلى القسم، واضعين في يد المجرم الأصفاد متجهين به حيث التحقيق، يسير معهم وهو شاحب الوجه، هزيل الجسم، يرى مستقبله يتهدم أمامه بيد فعلته تلك، يحاول أن يقسم أن هذا شيطانه ليس إلا، إنه لم يفعل شيء، إنه مرّ بلحظة هَيمَنَة لم يسيطر بها على نفسه عندما قتل صديقه المقرب.
صاح به المحقق (يوسف) وهو يسأله: لماذا قتلته؟
رد مرتجفًا :لم أقصد قتله، هو فقط .. فضح سرّي الوحيد بين زملائي.. سري الذي ما دُمت أخبؤه عن البشر إلا هو، لم أتحدث وقتها بل ذهبت له بعدما انفض مجلسنا كي أعاتبه لا أكثر.
قبض على يده إلى أن كادت تعتصر ثم أكمل: وجدته يسخر بي، دائمًا ما كان يستهزئ بي وبأسراري وأحلامي، كان يسخر من شكلي ومن ملابسي، حتى عتابي سخر منه وتركني وقام ليشرب كوبًا من الماء وأنا أتحدث، لم يعرني أي اهتمام.
وقتها امتعض داخلي، تحركت ورائه للمطبخ وأكملت شجاري معه، فتشاجر معي حتى أسقطني على الأرض وظل يلكمني بشدة، فأبعدته عني بعد محاولات عدة وأخذت السكين من جانبي ووقفت أمامه وطعنته في بطنه، طعنته عشر طعنات تقريبًا في ذات المكان وأنا أنظر لعينه.
شعرت أن السخرية يجب أن تقف عند هذا الحد، فهذا يحدث من صغري، فعزمت حينئذ أن من يسخر مني سأفعل به ما فعلته، وأن من يضع يده فقط عليّ فسأقتله، ولكني أفقت بعدما لُطخت يدي بالدماء، لم أكن أنا هذا الشخص.
نظر له المحقق وهو يتصبب عرقًا حتى تبلل قميصه، ولكنه قرر وضعه في السجن على أن يُعرض على المحكمة، فكل هذا يراه تمثيلًا، فقد فعلها، رأته الكاميرات في بيت صديقه.
تعرقل كثيرًا وظل العساكر يزحفون به حتى خفي عن أنظار المحقق "يوسف"، فطلب كوبًا من القهوة وحينها هاتف أخته ليطمئن على أحوالها فسكت هُنيهة عندما سألته عن حال زوجته، ثم قال: زوجتي لم تعد هي منذ وفاة ولدنا..
تقوم بتصرفات غريبة، تسرح كثيرًا، تسألني نفس ذات السؤال بشكل متتالي، أجيبها ولا تلاحظ.
مضطربة طوال الوقت، لا تأكل نهائيًا وتقول لقد أكلت كثيرًا.
لا أعرف ما هذا! أشعر أنها مصابة بالاكتئاب أو شيئ ما.
أجابته وقالت: سآتي وأراها، لا تنسى أنني طبيبة نفسية.
أغلق معها المكالمة ومرّ قرابة الأربع ساعات حتى عاد إلى بيته، ولما وصل وجد زوجته جالسة على سريرها، تحدثا قليلًا ثم ابتسمت هي ابتسامة خافتة ثم مددت على سريرها أما هو فغرق في نومه بجانبها حتى تنفس الصبح وهلّت الشمس تعتمر بيتهم، فتح عينيه وبدأ يومه الطبيعي. لا شيء جديد حتى مرّ نصف اليوم وأتى وقت ذهابه إلى عمله في دوام ليلي.
مرّ وقته في العمل مع قضية قبضه على الخادمة التي سرقت مجوهرات سيدتها وهربت، كشفتها الكاميرات هي الأخرى، حيث قالت كي تُبرر فعلتها: إنها كانت تؤذيني دائمًا، كانت لا تعطيني المال الكافي لتعبي، كنت أنام على الأرض، أتعب كثيرًا، فعزمت أن أحرمها من كل ما تملك.
ولكنّي أقسم يا سيدي، كنت فقط أهددها وكنت سأعيدها لها.
قالت ما توّد قوله ولكنها -مع ذلك- وضعت بالسجن، فهي سارقة على أي حال.
عاد للبيت ووجد زوجته تجلس نفس مجلسها السابق، تحدثا نفس الحديث المعتاد وناما.
استيقظ صباحًا على صوت أحد يضرب الباب مرة تلو الأخرى وينادي باسمه فنظر لزوجته فوجدها نائمة بجانبه.
قام على عجلة وفتح الباب فوجد أحد جيرانه يقول في خوف : لقد قُتل "أنس" جارنا بطعنات في بطنه، يا حضرة الضابط.
ذهب معه في رهبة يتفحص فوجده قد قُتل بنفس طريقة هذا المجرم الذي قتل صديقه.
أتى الوقت الذي يذهب به إلى عمله وهو يفكر في قضية أنس وانتظر الطب الشرعي فلما أتاه وجد به أنه قُتل بالأمس، كما أنه مطعون عشر طعنات، كما الآخر، اضطرب داخله ولكنه قرر أن يبحث في هذه الجريمة بطريقة منفردة ففي جميع الأحوال كان أنس دائمًا على خلاف مع أصدقائه.
قضى يومه المعتاد ولكن بلا قضايا وبلا قبض على أحد هذا اليوم، عاد إلى بيته ونام بجانب زوجته التي كانت تتقلب في نومها، ولكنه استيقظ في الصباح الباكر على صريخ جارتهم "السيدة سوزان"، ولكن لم يهتم؛ فهي عادةً ما تصرخ في أولادها، ولكنه أفاق وجحظت عيناه عندما سمعها تصيح : سارق!!
ثم تعالت صرخاتها قائلةً: سُرقت جميع مجوهراتي.. أريد السارق الآن.
شرد وهو يفكر ويتحدث داخله: لماذا تتكرر نفس الجرائم ولكن في منطقتي؟ أم أنه مجرد تشابه فقط؟
ذهب حيث بيتها وسألها :هل يعرف أحد يعرف مكان مجوهراتكِ؟ هل تشكين بأحد؟
قالت بصوتها العالي: إن مجوهراتي تبقى هنا في صندوقها دائمًا، لا أُخبأها في مكان معين، ولكنّي أقسم أنه أحد قريب من هنا ويعرف أن لديّ مجوهرات، وإلا ما أتى وسرق في هذا الشارع الحي بدلًا من أن يسرق فيلا مثلًا، أريد السارق الآن.
أخذ يقلب عيناه على المكان وهي تتحدث، ونظر هنا وهناك ليكتشف من أين دخل السارق وتذكر أن البيت أرضيّ ومن السهولة أن يدخل السارق الذي يعلم بالمجوهرات أصلًا.
ربت على كتفها وقال: سأجده..
ذهب لعمله كالمعتاد وأنهاه في تمام الساعة الواحدة بعد منتصف الليل على غير المعتاد؛ كي يهاتف أخته حيث قال لها:
في طريقي إليكِ كي تأتي معي وتبيتين معنا بضعة أيام.
ثم سكت هُنيهة واكمل: ستأتين.. لا مفر.
وحكى لها في طريقهما حال زوجته الاضطرابيّ، نصحته أن هذا من الممكن أن يكون حالة اكتئاب عارضة لا أكثر وأن يجعل يومها أفضل مما هو عليه الآن، أن يجعلها ألا تمل كثيرًا، ففكر في غرفة الأطفال في بيتهم التي لم تُفتح منذ مدة أن يُنظفها ويضع بها جميع أنواع الورد الذي تحبه.
ذهبا ووجداها نائمة فذهبا ليتفحصا غرفة الأطفال تلك، فوجدا بها ما لا يتوقعانه.
فوجداها مبعثرة أكثر، وبها الكثير من الملابس، غريبة ومختلفة، علب مكياج كثيرة، و(باروكات) للشعر مختلفة، لم يفهما ما كل هذا وماذا تفعل!
تفحص يوسف أرضية الغرفة فوجد أحد قمصانه التي لم يعد يرتديها مُلقى وملوث بالدم، ومن ثم وجد مجوهرات كثيرة، وهي تلك المجوهرات التي كان يلاحظ السيدة سوزان تتحلى بهم.
امتعض داخله كثيرًا وهو يفكر في جرائم القتل التي تكررت في حيّه وقال لأخته التي كانت تنظر لكل هذا بغرابة، ولكن عقلها يفكر في شيء آخر: الآن فهمت، ولكني لا أصدق ما فكرت به، كيف يمكن أن يصبح هذا حقيقة؟ لا أصدق أن زوجتي من الممكن أن تفعل هذا الشيء!
فلما سألته أخته عن هذا الشيء الذي فهمه، جاوبها وقد لمعت عيناه كادت تسيل منهما الدموع: كان حديثنا دومًا عندما أعود من العمل عمّن قبضت اليوم، تسأل وتكترث دومًا عن القضايا وأنا أقص عليها بالتفصيل، حتى إنني من قلت لها إن المجرم طعن صديقه عشر طعنات.. أنا من قلت لها العدد أيضًا، ومن المؤكد إن هذا الدم على القميص هو دم أنس، وهذا يؤكده وجود المجوهرات فهي فعلت الاثنان..
وضرب بيده على الحائط وهو يقول: نعم، أنا من قصصت عليها قضية الخادمة التي سرقت سيدتها، ذهبت هي وسرقت السيدة سوزان، أنا متأكد من ذلك ولكني اتمنى أن أكون ظالمًا، وأنها لم تفعل هذا الشيء!
فمسكت أخته يده وقالت له: اهدأ كي لا تستيقظ، أنا أفكر من وجهة نظر أخرى يا يوسف، سأسألك سؤالًا.. هل لها عداوة مع هذا الذي قتلته أو السيدة سوزان تلك؟
فكر قليلًا ثم قال: لا، لا يوجد لها عداوة مع أيٍّ منهم، هي فقط كان تعلم مشاكلهم وتعرف أحوالهم كجيران فقط.
-سأسألك سؤالًا آخر، هل كان لديها سابقة مؤلمة في طفولتها؟
جاوبها بعصبية قائلًا : لماذا تسألين كل هذه الأسئلة؟
قالت له بصوت خافت: اهدأ وأجب.
فرد وهو يتأفف: نعم، والدها توفى في صغرها، وتزوجت والدتها بآخر..
فهي تعتقد أن والدتها سبب في قتل والدها لأنها كانت تخونه مع زوجها الجديد الذي كان يتحرش بها يوميًا، وكانت والدتها على علم بذلك ولا تتحدث، لأنها لا تُحبها من الأساس، وكانت قاسية عليها دومًا حسبما أخبرتني منذ فترة طويلة..
كما أنها دائمًا ما كانت على خلاف مع أصدقائها حتى تركوها تمامًا.
-إذن ستعطيها فرصة أخرى، من الممكن أن تكون مريضة، و حسبما رأينا هذه الغرفة وكما رويتَ حالتها تلك فيبدو انها تتقمص شخصيات القتلة والسارقين التي تحكيها لها مع أشخاص آخرين هي تعرفهم خصيصًا دون وجود أيّ عداوة،
كما أنه لا يوجد مجرم أو سارق يُخبئ أدلة جُرائمه في بيته هكذا. يوجد شيء ما بالأمر، فلذلك سأطلب منك أن تبتدع لها قصة قتل ما، وتصف لها القاتلة مثلًا وترى ماذا ستفعل!
وإذا فعلت ما رويته لها وتجسدت في شكل تلك الشخصية فإنها مريضة نفسيًا فأنا أعلم هذا المرض الإنفصامي، وإذا لم تتغير وظهرت عليها ملامح الكذب التي تكشفها أنت كضابط، فعليك أن تفعل ما تشاء وتضعها بالحبس، كما أنني سأكون معك غدًا.
هزّ رأسه وبدأ ينفذ تلك الخطة ولكنه شعر بغرابة تتجسد على ملامحه المصدومة.
لم ينم طوال الليل حتى استيقظت وسألته سؤالها المعتاد: عمّن قبضتَ بالأمس؟
جاوبها بأول شيء خطر بباله وهو يشعر بغضب شديد من سؤالها الذي شعر لأول مرة أنه قد فهمه الآن، وقال : زوجة تشبه اللؤلؤة.. ناصعة البياض وتضع أحمر شفاه وخدودها مُوردين طبيعيًا، قتلت زوجها لأنها توّد الزواج بآخر.. أضاعت شبابها بفعلتها هذه.
راقب نظراتها فلم يلاحظ شيئًا
مرّ الصباح حتى أتى وقت الدوام الليلي فخرج وكأنه ذاهب لعمله، وكانت أخته تنتظره، والمصير إما المصحة أو السجن.
تسللا إلى داخل البيت مرة أخرى بهدوء وأخذا يترقبا حركاتها دون ملاحظتها، فعند منتصف الليل، قبل انتهاء دوامه المعتاد بالنسبة لها -عند الخامسة صباحًا- تحركت هي لغرفة الأطفال، وبدأت في تجهيز الملابس، وضعت الكثير من بودرة الوجه حتى أصبحت ناصعة البياض، ثم وضعت أحمر الشفاه ووردّت خدودها..
وضع يده على فمه عندما رآها تفعل هذا وتزايدت ضربات قلبه عندما وجدها تقفز من شرفة غرفة الأطفال أمامه، خرجا الاثنان من الباب ومشيا خلفها في بطء حتى وجداها تقف أمام شرفة الأستاذ مجدي الذي طلق زوجته بعد أن اكتشف خيانتها ويعيش وحده وهي من المؤكد تعلم هذا..
وجداها تقفز فلم يدعها "يوسف" تفعلها وتحرك من جانب أخته، وهرع إليها وأمسك بها، مارست العنف معه وضربته فقام هو بهزّ جسدها مرارًا ثم قالت عندما نظرت إلى وجهه: لقد عدت!
-إنكِ في الشارع، في هذا الزيّ. ماذا تفعلين؟
جاوبته وهي تنظر لملابسها والمكان حولها: لا أعلم.. لا أتذكر.
فقال بعنف ليلاحظ اضطرابها: إنكِ تقتلين!
أما هي فأمسكت رأسها وردت بدهشة : ماذا!! أشعر بالصداع الشديد.
ثم تحولت ملامحها ورُسمت الحِدة عليها، وقد جحظت عينيها وقالت : نعم ..أقتل.
وحينئذٍ، أتخذا قرارهما في أين يتجهون بها.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق