في وسط الزحام لمحت عيونها ببريق ساحر يأخذ القلب، ويضوي الروح، ينطلق من تلك اللوحة المرسومة في معرض صديقي وسام طبيب التشريح والرسام في نفس الوقت ولغرابة القدر انه يستطيع الجمع بين هذا وذاك بمهاره تثير إعجاب من حوله.
كنت أعلم منذ سنوات أنه عاشق لرسم الشخصيات من وحي الموتى، ولكن من هذه الفتاة المجسدة في لوحته؟ وكأنها بشر من لحم ودم، ما قدرتها لكي تطبع صورتها في قلبي بهذا الشكل؟ لا تفارق خيالي، هل هي جثة لفتاة وقعت تحت مشرطة في عمله؟ أم أنها من وحي خياله؟ ....وكأنها رسمة لفتاة أسطورية، عيونها تكاد أن تنطق من بين الألوان.
اقتربت من اللوحة لخطوات ولمستها بإصبعي، وكأني في حالة لا شعورية محاولًا اتنزاعها من اللوحة، ليخرجني من حالتي السكونية وسام مربتًا على كتفي ومتحدثًا بنبرة تحمل الدهشة قائلًا :ماذا بك يا صديقي ؟ ما حالك بهذه الصورة ما الذي جذب انتباهك لها لهذه الدرجة يا آدم ؟
كنت و كأنني في حالة انتزاع من حلمٍ غرقتُ فيه وقلت: لا شئ، لا شئ يا صديقي.
وبنفس نبرته المندهشة ممزوجة بطابع من السخرية قال :هل حيرتك هذه الفتاة؟
خرج صوتي بهمس :وكأني أعرفها ، هل هي جثة اكملت ملامحها في عقلك كما تفعل في كل لوحاتك؟
رد وسام ضاحكًا بصوت عالٍ وفي حالة غريبة: لا يا صديقي لم أرها قط في حياتي، ولهذه اللوحة حكاية أغرب من الخيال،
بينما كنت أعمل في تشريح جثة لقتيل رجل مسن في العمر، شعرت وكأن النوم يناديني بأي شكل، وقد تعلمت في مجالي عندما يلح عليا النوم بهذه الطريقة أكون متأكدًا من أنه هناك رسالة ما ترسلها روح المتوفي لتساعدني في عملي وتجيب على تساؤلاتي، وعندما خلدت إلى النوم جائني الرجل في منامي كما توقعي، ولكنه لم يجبني عن لغز يعطيني طريقًا للوصول للقاتل. كان منامًا غريبًا :طريق منير بضوء القمر وأعطاني صورة فتاة وأشار إلى القمر وحدثني بكلام غامض :
انتبه على قمر يا آدم ...
بعدها استيقظت من النوم في حالة ذهول ومع زحمة العمل نسيت منامي واعتبرته منامًا محرفًا من عقلي واستمريت على هذا إلى موعد معرضي الأخير، هذا المعرض من المفترض أنني أفتتحه بخمسة وعشرين لوحة وكل ما رسمته طوال العام الماضي كانو أربعة وعشرين لوحة فقط، ظللت ليلة كاملة أعتصر عقلي لكي استحضر أي وجه قد رأيته وجذبني وذهبت في نوم عميق وهنا سمعت صوته كما حدثني في المنام بالسابق ولكن هذه المره كل ما قاله كان '' قمر''.
استيقظت في حالة من الذهول والحيرة وظللت لمدة سبعة أيام كاملة أستحضر صورتها في ذهني إلى أن تجسدت أمامك كما ترى، الفتاة حكاية من الاساطير يا آدم.
وبصوت ساخر وابتسامه باهتة قلت: نعم وإذا قصتتها لأي شخص لن يصدقك يا عزيزي.
لم أنتبه إلى ضحكاته المتتالية وكأنه عثر على اكتشاف مفاجئ ، وفي تلك اللحظة ومن وسط ضحكاته الجنونية قال: ألم تسمع يا صديقي ما قصصته عليك منذ دقائق، المرحوم قال يا آدم! هذه رساله لك! كيف لم أنتبه كل هذه الفترة ؟ أنت المقصود يا آدم!!
قلت ناظرًا إليه بحنق : ماذا دهاك يا وسام ؟
وما لا يعلمه وسام أنه في تلك اللحظة كانت تدور حرب في عقلي، حرب بين تصديق ما يلفظ به وسام وبين العقل والمنطق..
قال وسام مرتسمة على وجه ملامح الجدية وبنظرة لأول مرة أراها في عينيه، نظرة آمرة بخوف أب على ولده : اذهب وابحث عن قمر يا آدم.
استدرت منصرفًا وأنا احدثه بسخرية: لقد فقدت عقلك يا صديقي أراك غدا في المقهى، ربما تكون قد استفقت من أحلامك.
خرجت من معرضه متجهًا إلى سيارتي؛ لأستقلها إلى منزلي
-الذي يبتعد عن مكان المعرض بأربع شوارع وأحفظه عن ظهر القلب فهذا طريق منزلي- محدثا نفسي : سأذهب إلى بيتي وسكني، ولكن هل المنزل والسكن هو ما نقيم فيه فعلًا؟ أم مع الشخص الذي نشعر معه بأمان واحتضان؟ الشخص الذي تتداخل روحه مع روحنا لتكون سكنًا ووطنًا، يالهامن مفارقة كوميدية نعيشها جميعًا، كلنا لدينا منزل ولكن قليلًا من لديه سكن. وفي غمرة تفكيري وحديثي الداخلي أجد أنني أسير بسيارتي في طريق مختلف عن منزلي.
أقوم بإيقاف سيارتي في حالة قلق محدثًا نفسي: ما الذي قادني إلى هذا الطريق؟ هل فقدت طريق المنزل ؟ وفي حالة عراك داخلي مع عقلي قلت في نفسي :ما الذي اكتسبته الان يا آدم ؟ فقدت الطريق أم... توقف تفكيري في تلك اللحظة وكأنها خرجت من اللوحة لتظهر أمامي الآن .. قمر!
نعم هي فتاة في العشرينات من عمرها ترتدي معطفًا يقيها شدة تلك الليلة الباردة، بشعر منسدل أسود ليلي وعيون لامعة بنية تجمع بين البراءة والخوف والبهجة في آن واحد، كما رسمها وسام وكأنها كانت أمامه!
كيف هذا ؟؟
أفقت على صوتها الممتلئ بالقلق والخوف من هذا الطريق الموحش قائلةً :من فضلِك، حضرتك، لقد توقفت سيارتي فجأة عن العمل ولا أعرف كيف أتصرف، هل من الممكن أن تمد لي يد المساعدة؟ كأن الله سمع ندائي وأرسلكَ لي من السماء، أنا متوقفة هنا منذ أكثر من ساعة وقد نفذت بطارية هاتفي أيضًا.
ظللت مستمعا لها في حالة ذهول، ليخرج من بين شفتي كلمة واحدة فقط :قمر ؟
تبتعد عني خطوات مرتعدةً وقالت بخوف :كيف عرفت اسمي؟ من أنت ؟
قلت مستجمعًا هدوئي في محاولة مني لكي أطمئنها: أنا آدم .. أسمي آدم، إهدئي من فضلك أعلم أن ما أقوله ليس منطقيًا وأنا لم أكن مقتنعا بكل هذا الهراء الذي سأحكيه الآن إلى أن رأيتكِ الآن أمامي، لقد ارسلني الله لكِ من السماء كما ذكرتي منذ لحظات.
ردت قمر محاولةً التحدث بنبرة تجمع بين الخوف والذهول: ماذا تقصد يا ... أنت ... آدم ؟
نظرت إليها محاولًا رسم كلماتي على لساني وقلت :منذ ساعة تقريبًا كنت في معرض لرسام صديقي ، وهناك كانت أنتِ ، لست أنتِ بالضبط ولكن لوحة تشبهك تمامًا وقد قص عليّ وسام- وهو بالمناسبه طبيب تشريح- أنه منذ شهور كان يقوم بتشريح جثة لرجل مسن وتواصل معه روحيًا في المنام.
وذكر له اسم فتاه تدعى قمر وطلب منه أن يبلغ آدم أن ينتبه عليها، اقسم لكِ أن هذا ما حدث.
لقد تركت معرضه في حالة ضجر عندما طلب مني أن أبحث عن الفتاة، خاصة وأن عيوني قد تعلقت بصورتكِ بشكل غريب.
ردت قمر وقد مُلئت وجنتاها بالدموع وكأنها بحرًا من الأمطار اتحد مع تلك الليلة الباردة :هل وصف لك صديقك ما شكل الرجل؟ صديقك لا يكذب، أو لا أعلم ولكن فعلًا رحل أبي منذ شهور، ولم يكن لدي أحد غيره في هذا العالم وظلت تتمتم في وسط بكائها : لقد كان أب.... صمتت فجأة وقالت في ذهول: صديقك لا يكذب، كيف هذا ؟؟
مرت دقائق وكل منا ملتزم بالصمت والذهول فما رفضه عقلي حاربت روحي وقادنتي إليه دون وعي مني وكأن روحي تحكمت في عقلي وقادته إلى طريقها.
قطعت قمر حبل الصمت الذي ساد مدة لا يعرفها أحد منا وقالت بصوت هادئ ونبرة ملائكية: هل من الممكن أن أرى اللوحة أرجوك ؟
أجبت مُحتضنًا روحها بعيني، فما أشعر به في تلك اللحظة أشبه بحلم كالأساطير : نعم، بالطبع، فالمعرض لا يغلق إلا في وقت متأخر من الممكن أن تذهبي معي في سيارتي، وفي كل الأحوال سيارتك معطلة والبرد شديد لن نستطيع إصلاحها الآن.
ظلت قمر تفكر للحظات وقالت متحدثة بتنهد : ليس أمامي إلا هذا الحل، والآن أعلم أنك لن تؤذيني فمن نطق أبي اسمه في عالم الملكوت سيكون سكنًا وآمنًا .
هنا انتبهت إلى حديثي الداخلي قبل ما أن أراه : قمر، السكن والأمان، هي الروح التي نعشقها التي تضيء الظلام فينا ونرى الكون من عيونها التي نأتمنها على أنفسنا دون مقدمات أو سبب، فقط لأنها خُلقت لتكون سكنًا من قبل ميلادنا.
وما هي إلا لحظات قدت فيها سيارتي وأنا أتحدث مع قمر وكأني أعرفها وكأنها تعرفني منذ عمر مضى، لا منذ دقائق. وصلت إلى وجهنتا:معرض وسام.
تقدمت إلى المعرض وهي معي، لأنادي عليه بشعور يجمع بين اللهفة و الجنون : وساام!
يستدير وسام وقبل أن يفتح فمه ليتحدث يقف الكلام على لسانه عندما يراها، كما رسمها بالضبط.
ليخرج صوته ممزوجًا بالدهشة والفرحة وصرخ بجنون : قمر .!! لقد أحضرتها ؟ كيف هذا؟
أحمد الله أن المعرض كان على وشك الإغلاق وشبه خالي من الزوار حتى لا يرَ الجميع صرخة صديقي.
قالت قمر وعلى وجهها ترتسم ملامح ملاك يخطو خطوته الأولى على الأرض وبنرة هادئة خطفت قلبي : أنا لا أَستوعب أي شئ، ولكني أصدقه، أريد أن أرى اللوحة، من فضلك.
أجاب وسام ولازالت ملامح الذهول تعتلي وجهه :نعم بالتأكيد.
وفي ثوانٍ كان ثلاثتنا يقف أمام اللوحة في حالة تأمل.
قالت قمر والدموع تُغرق وجنتيها مختلطةً بوجهها الجميل، لتكون لوحة أجمل من لوحتها المرسومة : اللوحة تشبهني تماما، الله يرحمك ويسكنك الجنة يا أبي.
صمتت قليلًا ثم أكلمت :أنا أصدقك يا دكتور وسام.
وفي هذه اللحظة وكأن روحي قد تحررت من منزل الدنيا وعثرت على سكنها وجدتني أمسح دموعها ويدي ممسكةً بيديها وقلت: ربما لا أعرفك يا قمر، ولا تعرفينني ولكن كل ما أعرفه في هذه اللحظة أن روحي قد وجدت سكنًا أخيرًا ولن تتحرك بدونه، تقبلي أن تتزوجينني يا قمر لتكوني بيتي وعائلتي وسكني، لأنفذ ما تمنته روح والدكِ، لتسكن في جنة الخلد مطمئنة عليكِ؟ وفي وسط دموعها خرج صوتها ليأخذني إلى جنتها إلى آخر طريق الحياة وقالت: نعم، أقبل!
لنسطر معًا النهاية لعذابٍ مضى وبداية لعمر وبيت وسكن،
لقد قادتني روحي إلى طريق عشقك، فعشقك سكني ودوائي.
يغلق آدم دفتره خواطره ويأخذ قمر زوجته في حضنه ناظرًا إلى ضوء القمر في السماء مبتسمًا وشاكرًا الله على ما وهبه من سكن.
# نور البشري
خيالية اوي بس استمتعت بيها ❤️❤️
ردحذف