باللون الأزرق - حنان فوزي
ندى العُمر
نوفمبر 04, 2021
دوائر من الدخان الأزرق ترتفع عاليا، تبُهت زُرقتها قليلًا في طريقها للزوال، قبل
أن تتبدد، تلحق بها أُخرى معلنة دورة جديدة، ضحكات صاخبة أضاع المُخدر وقار أصحابها
فصارت مُجلجلة ترن كصهيل الخيل، عجز عقلي عن استيعاب ما تراه عيناي فالتفت لزوجتي
مُتسائلا: - رضوى، ما هذا المكان؟ قلت أنه موعد لأشكو الظلم الذي أعانيه بالشركة
لأحد اعضاء مجلس الإدارة.. فما هذا؟ إنها (غُرزة) حتى لو تزينت بلوحات أصلية
وتماثيل من الأبانوس، وغاصت أقدامنا في سجادها العجمي. جذبت يدي لنقترب من الجلوس
قائلة بحسم: - أولا ليست (غرزة)، بل فيلا نجيب باشا كما قرأنا بالخارج، و حتى لو
كانت، المهم أنه يتواجد بها يوميًا أهم أعضاء مجلس إدارتك ولولا تعاطف زوجة كامل بك
معي منذ حفل الشركة وعلاقتها الحسنة بي لما استطعنا الوصول لهذا المكان.. كانت على
حق فأمام نظري الآن ثلاثة من أكبر الرؤوس بالشركة! ثلاثة عجزت تماما عن الحصول على
موعد مع أيًا منهم حتى ولو بعد شهر! تعالى صوت أحدهم وهو يشير إلينا قائلا بذلك
الصوت المميز لمن لعب المُخدر باتزانه: - تعالوا.. تعالوا جلستنا ستحلو أكثر.
اقتربت رغما عني وزوجتي تهمس: - جربنا مثالياتك السخيفة كثيرًا، فلتُجرب طريقتي
إذًا.. مد ثانيهم يده إلي بمبسم نرجيلة قائلا: - مساء الخير... شد وطير ترددت لحظة
لكن نظرة عتاب من رضوى حسمت الأمر، مددت يدي للمبسم المنتظر وألقمته فمي، لحظات
وتعالى سُعالي تسابقه ضحكاتهم الساخرة وعاد الباشا يقول: - على الهادي، من غير
عافية . اتبعت تعليماته... و كانت البداية. الحجر صار أحجارًا ، والليلة أصبحت
ليالٍ عدة. بين الغمامات الزرقاء تعلمت الكثير، وعرفت أكثر؛ أسرار الجميع تُسكب على
محراب المخدر بلا قيود؛ عرفت ما بعقول السادة؛ تقززت منه أولًا، ثم تعلمت أن لكل شئ
ثمن، وكعادتي تمنعت قليلًا ثم تعلمت الدفع: خدمات صغيرة قد تبدو للبعض قذرة، لكنها
كانت السبيل لعالم آخر! حصلت على ما أريد، أصبحت من أهل الحظوة، قفزت في عملي
درجات، بل استقللت مصعدًا إلى القمة ناظرا بإباء إلى رفاق الماضي ممن لم يجدوا للون
الأزرق سبيلًا. كان مجلسنا يتمدد كل ليلة ليشمل عضوًا جديدًا من زُبد المجتمع
وقشدته. ومع كل إضافة تُفتح أمامي آفاق أوسع وفُرص أكبر. صحيح أنها تأخذني بعيدًا
عن أنا الذي أعرفه، كصاروخ فضائي أنفصل عن قاعدته بلا أمل في الرجوع، ولكن ما فائدة
القاعدة إذا كانت تربطني بالأرض، لتذهب ولأُحلق بعيدًا إلى السماء. كان كل شئ يسير
بأفضل مما أتوقع حتى ذلك اليوم الذي أنضم لنا من جعل حلوقنا تجف له انبهارًا! ذلك
السياسي، الديبلوماسي المُحنك الذي كُنت آراه بالتلفاز فافغر فاهي عجبًا بقوته
وشجاعته! اقتربت منه أكثر من الجميع، الوحيد الذي دعوته لبيتي، ومن أجله عرف منزلي
اللون الأزرق! عرض علي شراكة في الخارج، عالم آخر سأخطو إليه، كرجل مشهور، لا
تُخطئه العين، يحتاج لستار لكل سطوته وأمواله، وكنت أنا المنشود الذي سينعم بكل شئ،
فقط يحتاج طلبًا بسيطًا.. وكان الثمن. لم أكد أصل بذكرياتي لهذه النقطة حتى انتفضت
كل عروقي، مُعلنه تمردها ورغبتها في تخطيها، نهضت مسرعا للبراد التقط زجاجة من
(الشمبانيا) صببت بعضها في كأس، وتابعت فوران السائل الذهبي " يا أيها الذين آمنوا
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون"
دوت الآية في عقلي بصوت والدي وهو يُلقنني أياها صغيرًا تبعها صوتي يتمتم بها
متلعثما. اللعنة أخرجوا من رأسي ليس هذا يومكم! ليست أول مرة ولا آخر مرة أشرب فما
شأنكما اليوم؟!! عدت لمقعدي، تأملت الكأس بيدي، ترددت لحظه ثم تجرعته كاملًا، شعرت
بالدم يتصاعد إلى رأسي فتدور، صببت الثاني والثالث والرابع. تُرى هل شربت رضوى معه
كاسات الشامبانيا أم أنه لم يُمهلها؟!! نعم كانت هي الثمن، وككل مرة رفضت أولًا، ثم
أعدت النظر ووافقت، الاختلاف الوحيد هذه المرة: أنها رفضت، رفضت بشكل قاطع، اتهمتها
بالأنانية وأنها تهدم ما بنيت، أخبرتها أنها مرة واحدة، صفحة نطويها معًا، ولن
نذكرها ثانية، كانت نظراتها لي تتبدل، شئ لا أدري كنهه ملأ عينيها ثم أعلنت
موافقتها. خنجر وجد طريقة إلي قلبي كزوج مخدوع أكتشف الخيانة توًا، بكت رجولتي
ألمًا، وتمرغت في معاناة. لم وافقت يا رضوى؟! هل كان تمنُعك حقيقًا، أم أنه تمثيلية
أعددتموها سويًا. لم تضع دقيقة واحدة بعد إعلانها هذا، أسرعت لغرفتها و ارتدت أفخر
ثيابها، تمرغت بعطر وصل شذاه للخارج، خرجت إلي وفي يدها ثوب النوم الذي أفضله،
لتضعه بحقيبتها أمام عيني الذاهلتين وهي تقول كبصقة: - من اليوم نحن شركاء فقط. لا
زوج و زوجة راحت جملتها تطن في رأسي، هل هان كل شئ إلي هذه الدرجة؟! هل هانت هي
علي؟! أم هُنت أنا عليها قبلًا. كيف أنتم الآن؟!! هل تهدأين بين ذراعيه! هل تصرخين
بإسمه؟! هل ترفضينني زوجًا لأنك توفرين نفسك له؟! الخائنة، تتلاعب بي مُدعية
الشرف، أسرعت لغرفة نومنا، رُحت افتش في الأدراج حتى وجدته. أخرجت مسدسي سريعا
وتأكدت من حشوه ، هرولت خارجًا، لن أتركهما يلوثان شرفي، سأقتلهما معا، نعم هذا ما
سأفعله. - عيش حرية عدالة إجتماعية دوى صوت المناضل القديم بأذني تتبعه أصوات
المئات بل الآلاف تردد، سأقتص لك أنت أيضًا منها، فأهدأ بالًا. وصلت للمكان
المنشود، لم أكد أدلف حتى رأيتها خارجة: مُنهكة، مُمتقعة الوجه، لم تُحسن ترتيب
شعرها فبدا مبعثرا، أحمر الشفاه باهت ممسوح، أسرعت إلي صارخة : - لماذا جئت؟!
لتتأكد بنفسك من تنفيذ ما أردت؟! أطمئن وارتح بالا ستحصل على ما تُريد! إذن لقد
فعلتها، كانت له! تعكر جدولي الصافي، أسلمت حصونها له ودُكت قلاعي، صرخت فيها بكل
ما بداخلي من قوة: - خائنة. نظرت لي بذهول لكني لم أمهلها، للخيانة ثمن واحد، أخرجت
سلاحي وأطلقت. أصوات صراخ تتعالى من حولي، ظهر هو على الباب يهتف: - ماذا فعلت أيها
التعس؟! رصاصة أخرى أخرسته، كلاهما يستحق. بقي واحد فقط لتتحقق العدالة، رفعت فوهة
مسدسي إلى جبهتي ... وضغطت الزناد بينما يسيل السائل اللزج على رأسي المطروحة
أرضًا، بدا لي أن عيناي تخدعاني، أو أصابهما العطب، وربما كل ذلك الدخان الذي
استنشقت قد أبدل تكويني، فالدم الذي يسيل من جرحي الغائر فوق عيناي كان لونه أزرق!
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق