-->

سلمى فويلة - الغرباء

وسط الحقول الزراعية بمحافظة الغربية فى وقت بزوغ الشمس ظهرت سيارة بيضاء ، و بالمقعد الخلفى جلست مريم تاره شاردة فى حياتها الجديدة و تمنت أن تستقر و يصبح لديها أصدقاء مثل الذين افترقت عنهم رغما عنها ، و تارة تبنهر بمنظر الحقول الخضراء والطيور المحلقة فوق المنازل الصغيرة التى تتوسط الحقول ، كانت مريم تحتضن إطاىا صغيرا به صورة للسيدة مريم العذراء ، تخطت السيارة لوحة خشبية مثبتة فى الأرض وسط الحقول مكتوب عليها عبارة، حاولت مريم أن تقرأها ولكن حركة السيارة حالت دون ذلك ، نظرت إلى والدتها "ماتيلدا"و سألتها . - ماما إيه اللى كان مكتوب على الخشبة الطويلة اللى ورا دى ؟ قالت مريم عبارتها و هى تلتفت إلى زجاج السيارة الخلفى مشيرة بأصبعها في اتجاه اللوحة ، تبسمت الأم و مسحت بيدها على خصلات شعر ابنتها . - مكتوب عليها قرية منشأة سليمان يا حبيبتى اللى هنقعد فيها حبة . قاطع حديثهما صوت الأب "عادل عبد ربه" الجالس أمامهم مع الشيخ عثمان ، مميلا طربوشه الأحمر من على رأسه وهو ملتف ناحيه الشيخ عثمان . - متأكد يا شيخ عتمان إن مش هيحصل مشاكل ؟ تبسم الشيخ وهو مراقبا لطريق . - اطمن يا عادل أنا شيخ القرية وإمام الجامع، و كلمتى مسموعة، ده مش عشان أنا أزيد منهم فى حاجه لاسمح الله، لكن هما بيعتبرونى مستشارهم الدينى الأول اكمن اتعلمت فى الأزهر الشريف و الكل بيسمع كلمتى و بيحبونى وانتوا ضيوفى و استحاله حد يضايقكم و احنا كلنا عيله واحدة . نظرت الزوجه ماتيلدا إلى الشيخ باندهاش قائلة : - ما دى المشكله يا شيخ إنكم عيلة واحدة وأكيد مش هتبقوا حابين وجود ناس غريبة وسطكم . رد عليها الشيخ فى هدوء و هو ينظر إليها فى مرآه السيارة . - متقلقيش يا أم مريم الناس هنا طيبة بجد و أكيد هيرحبوا بيكم و مريم هيبقى ليها صحاب كتير و يمكن تستقروا هنا كمان . **** وصلت الأسره إلى دار الشيخ عثمان و استقبلتهم زوجة الشيخ بالترحاب الشديد و وضعت لهم مائدة زاخرة بأشكال وألوان الطعام ،وبعد أن انتهوا من تناول الطعام اصطحبهم الشيخ إلى دار صغير بجانب داره ،و لدى الدار فناء ضيق به كرسى و طاولة، و فى وسط الفناء بعض الأزهار التى لم تتدب بها الحياة منذ وقت بعيد . فتح الشيخ باب الدار به غرفتين تدخله الشمس من جميع الاتجاهات ، أعدته زوجة الشيخ و اهتمت بنظافته وبالرغم من أن الدار حالته جيدة، لم تشعر مريم بالسعادة التى توقعتها ،دخل الشيخ الدار وقف فى منتصف الفناء ثم قال : - كان الدار لابنى الكبير الله يرحمه كان هيتجوز فيه بس ربنا أراد إن يكون فرحه فى الجنة الحمدلله . ربت عادل على كتف الشيخ . - يرحمه الرب يا شيخ عتمان تعيش وتفتكر . تنهد الشيخ و نظر إلى مريم متبسم . - وتعيش وتفرح بمريومه يا أبو مريم ، أسيبكم بقى لأجل ترتاحوا شويه. تبادلو النظرات فيما بينهم بعد خروج الشيخ من الدار، حاول الأب أن يخفى ملامح القلق و لكن فشل فى ذلك . - اااا...ايه رأيكم نوضب الدار و نجهز أوضه مريومه عشان هتروح بكرا المدرسة ؟ نظرت إليه مريم التى كانت لم تتخطى السبع سنوات من عمرها و بضفيرتيها المنسدلتين على كتفبها حركت رأسها يمينا ويسارا قائلة : - بابا أنا خايفة أحسن صحابى فى المدرسة ميحبونيش زى صحابى اللى كانوا معايا زمان، هو إحنا هنرجع المينيا تانى امتى ؟ تيتا و جدو وحشونى أوى وكل صحابى . امتلأ وجهه الأب بالحزن مشفقا على حالهم و على حال ابنته التى لم تحظى بحياة طفولية سليمة . - حبيبة بابا مش إنتى عارفه إن بابا بيمر بظروف صعبة، وإن فى ناس شريرة عايزة تضربه، يرضيكى ده يحصل لبابا ؟ نكست مريم رأسها للأسفل، وشعرت بأن محاولتها الأخيرة للعودة إلى منزلها وأصدقائها قد فشلت . - لا يا بابا أنا بخاف عليك وبحبك خلاص هروح المدرسة .. قاطعتهم الأم ماتيلدا : - طيب يلا يا مريم روحى وضبى دولابك . (١) بداخل فناء دار الشيخ عثمان الذى كان جالساً على مقعده و أمامه كتاب الله الكريم وبينما كان يتلو آياته بصوته العذب، سمع صوت حشد من الرجال مقتربا من باب داره، فتوقع الشيخ سبب مجئيهم فأرتفع صوته مرتلا: ( لكم دينكم ولي دين ) صدق الله العظيم، رفع الشيخ عينيه صوب الحشد ، بعد أن أغلق المصحف الشريف، تطايرت ألسنة الغضب والاستنكار من أعين الحاضرين ، تبسم الشيخ و نظر إليهم بهدوء : - متجمعين عند النبى إن شاء الله خير يا رجاله إإمروا . ثار أحدهم و خرج عن صمته قائلا : - يا شيخ عتمان إحنا ليه ندخل ناس غريبة بينا ؟ و أهل القرية هنا عارفين بعضيهم و كلنا عيلة واحدة ، ليه واحد مسيحى يجى يقعد وسطنا هو و مراته وبنته ؟ و قال آخر جالس على كرسي ماسكا عكازا بيده اليمنى و عاقدا حابيه و عينياه جاحظتان : - واحنا ايش يضملنا إن ميحصلش مشاكل بسبب وجودهم؟ و متنساش يا شيخنا إن مراته و بنته غير محجبات زى ما دينهم بيقول، و إحنا حريمنا كلهم محجبات . ثار جميع الحاضرين قولا واحدا ( أيوا يا شيخ ، إيه يضملنا ؟ ) هب الشيخ واقفا ماسكا سبحته السوداء وخاطبهم : - يا جماعه اهدوا إحنا كلنا إخوة فى الله ،مسلمين ومسيحين ومش لاجل إن القرية كلها مسلمين ، نجوم نرفض وجود مسيحين بينا لا يا جماعة ، دول بشر زينا و الراجل طيب جدا و مراته ست محترمة و بنتهم طفلة ، هتعمل مشاكل إيه ، و بعدين خلاص الراجل سكن الدار والراجل دا ضيفى وانتوا مترضوش إن حد يزعل ضيوفكم، وبصراحه بقى زعله من زعلى . صمت الجميع متبادلين نظرات عدم الارتياح، و لكنهم مضطرين لقبول الأمر الواقع لحبهم للشيخ عثمان، ولكلامه عن الدين والفقه و كلامه سيف على الرقاب، فتحدث اكبرهم سنا : - خلاص يا شيخنا مفيش قول بعد قولك ده انت الخير والبركة ، يلا يا جماعه كل واحد يروح لحاله كلام الشيخ واجب على رقبتنا . وانصرفوا من فناء دار الشيخ . كانت مريم تشاهد ما يحدث من نافذة غرفتها ،حاولت أن تفهم ما سبب غضبهم من وجودها هى وعائلتها، و لكنها لم تستوعب الأمر . (٢) فى صباح اليوم التالى أعدت مريم حقيبه مدرستها و همت بالرحيل مودعة أمها، سارت مريم وسط أهل القرية ممسكة بيد والدها ، سارا وسط تبادل نظرات الاستحقار و الاستخفاف و وابتسامات وهمهمات بين الجميع ، حاول الأب أن يتجاهل ما يحدث، حتى وصلت إلي المدرسة وودعها بقبله خفيفة على خدها قائلا : - فى رعايه الرب يا مريم . وصلت مريم إلى لتجد جميع الفتيات فى الفصل يرتدين حجابا أبيض، لم تدرك لماذا هى مختلفه عنهم ، جلست فى أول مقعد بجانب فتاة هادئة الملامح ، نظرت إليها فى اعجاب شديد مبتسمة ابتسامة طفولية جميلة . قام المعلم بتعريف مريم بأصدقائها ، ثم جلست و أخرجت دفترها ، مالت عليها خديجة و بصوت خافت قالت : - شعرك حلو أوى يا مريم ،أنا إسمى خديجة . 😀 قاطعهم المعلم ضاربا بعصاه على السبورة . - مش عايز صوت ركزوا معايا . بعد انتهاء الحصة الأولى وخروج المدرس من الفصل، نظرت خديجة إلى مريم و هى متبسمة ثم قالت : - كنت بقولك إسمى خديجة انتى شعرك حلو أوى . شعرت مريم بالسعادة، لأن خديجة هى التى بادرت بالحديث معاها . - شكرا يا خديجة انتى كمان جميله أوى . قطعت خديجة نصف رغيفها الملئ بمربى التوت وأعطت نصفه لمريم . - خدى يا مريم انا بحب مربى التوت و اللى بحبهم بديهم ياكلوا معايا منها . بدأ الطفلتين فى تناول الطعام ثم تساءلت مريم  . - انتوا كلكم لابسين ايشارب لون واحد ليه ؟ هو ده زى المدرسة ؟ ضحكت خديجة و هى تحرك رأسها نافية : - لا طبعا ده اسمه حجاب كل البنات لبسينه عشان أهالينا بيقولوا إن كده صح و ان ربنا هيحبنا أكتر . نظرت مريم إليها فى اندهاش عاقدة حاجبيها وهى تلوك طعامها . - يعنى أنا كده ربنا مش بيحبنى عشان بشعرى ؟ رفعت خديجه كتفيها الى الأعلى . - معرفش بس انتى ليه بشعرك ؟ - عشان أنا مسيحية . اتعست عينا خديجة و لمعتا ، فذلك المصطلح غريب عن مسمعها . - يعنى إيه مسيحية ؟ طب بصى أنا عايزه أقلع الحجاب ده و أبقى بشعرى زيك، أنا شعرى حلو بردو هو لازم اكون مسيحية ؟ - مش عارفة يا خديجه إسألى مامتك وقوليلها إنك مش عايزه تلبسى الحجاب تانى وتبقي بشعرك . مر اليوم الأول على مريم فى المدرسة محاولة التأقلم على الوضع الجديد ، و غادرت مدرستها مع والدها وصلت إلى دارها ودخلت غرفتها وأخرجت دفترا صغيرا دونت فيه : ( النهارده أول يوم فى مدرستي الجديدة، اتعرفت على خديجة و ادتنى سندوتش مربى بالتوت أنا حبيتها أوى وأتمنى نفضل صحاب لآخر العمر ) (٣) وفي صباح اليوم التالي ، وجدت مريم صديقتها خديجة جالسة فى أول مقعد و بجانبها فتاة أخرى ، فرجعت مريم إلى الخلف و بعد انتهاء الحصة، توجهت مريم الى خديجة فرحة ، وجاءت لتعانقها فأبعدتها خديجة قائلة : - لو سمحتى يا مريم ابعدى عنى . شعرت مريم بأن شيئاً بداخلها قد انكسر ، لم تعرف أهو خاطرها أم فرحتها ، فتخلل الحزن أحبال صوتها و امتلئت عيناها بالدموع فى لحظة وهمست : - ليه يا خديجه هو أنا زعلتك ؟ تكلمت خديجة وهى تنظر أمامها تبعد عيناها عن مريم : - لا يا مريم بس مامتي قالتلى ماليش دعوه بيكى ولا أكلمك عشان انتى مسيحية، وبشعرك و هتخشى النار و اللى بشعره أصلا ربنا مش بيحبه و مش بيحب اللى بيصاحبه وأنا مش عايزة ربنا يزعل منى، ابعدى عنى بقى لو سمحتى . نزلت كلمات خديجة على مريم كالصاعقة، و عادت إلى مقعدها و هى تشعر بالحزن الشديد، و بداخلها سؤال واحد ( لم افعل شئ لماذا فعلت ذلك معى ) عادت و دموعها منهمرة ، وقد ملأها إحساس الخوف وأن هذا المكان غير مريح بالنسبة إليها ، انتهى اليوم الدراسى وعادت مريم إلى دارها دخلته فى حالة من الصمت ، ظنت الأم أن الفتاة الصغيرة مرهقة وتريد النوم فقط لا أكثر، فتجاهلت أن تسألها ، لكى تطمئن عليها ،دخلت مريم غرفتها وأخرجت الدفتر وبدأت في الكتابة : (خديجة مدتنيش سندوتش المربى النهاردة ، خديجة زعلتنى و خلتنى أعيط قالتلى ابعدى عنى، اغنا معملتش فيها حاجة وحشه قالتلى ، ابعدى عشان انتى مسيحية مش عارفه ليه زعلانه انى مسيحية ، أنا مش هيبقى ليا صحاب ومحدش بيحبنى ، أنا عايزه ارجع لصحابى و لتيتا وجدو بقى ) (٣) فى صباح اليوم الرابع تحركت مريم إلى مدرستها و هى بداخلها غضب كبير بسبب إحساسها بأنها غير مرغوب بها و غير محبوبه ، جلست بمفردها على المقعد الأخير وبعد انتهاء خر حصة كانت لمدرس اللغه العربيه والتربيه الدينية ، أمر مريم بالبقاء فى الفصل بعد انتهاء الحصة . خرجت جميع الطالبات وظلت مريم بمفردها وسط الفصل و أستاذها جالسا على مكتبه ، ثم سألها : - عامله ايه يا مريم ؟ قال جملته تاركا مكتبه و متحرك نحو مريم ، أجابته مريم فى صوت خافت به الكثير من الحزن . - أنا عايزه أمشى من هنا . جلس المعلم بجاورها واضعا يده على كتفها و نظرات عينيه تملأها تلك الشهوه الحيوانيه المحركه للرجال بغض النظر عن دينهم أو ملتهم . - ليه كده يا مريومه ده إحنا كلنا بنحبك . تحدثت مريم وهي تشعر بشئ غريب فمن غير المعتاد أن يقترب منها أحد إلى هذه الدرجة : - لا مفيش حد بيحبنى يا أستاذ . ابتلع المعلم ريقه واقترب أكثر من مريم واضعا يده على فخذها الأيسر مقربا إليها أكثر محاولا ضمها إلى صدره . هبت مريم واقفه وتركت مكانها . - أنا عايزه أمشى بابا مستنينى برا . تركت مريم المدرسة و ذهبت إلى والدها الذى كان منتظر خروجها وعندما رأته مريم ارتمت فى أحضانه فهو ملجأها و أمانها الأول والأخير ولم تنطق بكلمة واحدة طوال الطريق ، فحملها والدها فوق كتفيه و هى تنظر إلى السماء ترتجى الإله الرجوع لحياتها القديمة حتى وصلت إلى دارها و دخلت غرفتها ،و كالعادة أخذت تدون : ( معرفش أستاذ محمود كان بيكلم معايا كده ليه و بيلمسنى كده ليه، أنا خايفه و مرعوبه وكنت عايزة أقوم أمشى بسرعة كويس إن بابا كان مستنينى، أنا بحبه أوى و مش عايزة أزعله و لا هقوله إني عايزة أمشى من هنا، نفسي الناس الشريرة اللى عايزين يضربوا بابا يموتوا ) (٤) فى صباح اليوم الخامس ، وبعد ذهاب مريم للمدرسة، عاد الأب ليبحث عن أوراق مهمة قام بتفتيش الدار كله عنها ماعدا غرفه ابنته ، فدخلها وبدأ فى البحث فوجد الدفتر الذي يشكل بئر أسرار مريم وبدأ فى قراءة ما كتبته ابنته الصغيره حتى، وصل إلى الصفحه التى كتبتها مريم بالامس عن معلمها الفاضل الأستاذ محمود، ففهم الأب أن المعلم حاول التحرش بأبنته فشعر ببركان ضرب عقله و والدم فار فى عروقه و الغضب تملك جميع جوارحه كل ذلك مختلطا بشعور الحزن والأسى عن حال ابنته وما تعانيه كل يوم بسبب حال والدها الهارب من الثأر ، الذى وقع فوق رأسه من حيث لا يدرى، لم يتمالك نفسه فسابقته قدماه حتى وصل إلى دار ذلك المعلم ، و قام بطرق الباب بعنف شديد حتى فتح المعلم الباب فمسكه الأب من رقبته . - بتتحرش ببنتى يا زبالة هو ده الإسلام ؟ هو ده الدين اللى بدرسه للبنات فى الفصل ؟ أنت زباله و لازم أعرف الناس حقيقتك . نظر المعلم إلى أعين الأب فى تحدى قائلا : - قول اللى تقوله محدش هيصدجك ولا هيصدج بنتك عارف ليه ؟ لأنك مسيحى هيقولوا إنكم عايزين توجعوا أهل قريه فى بعض ، انتوا ضيوف تجال على قلوبنا و تستاهلوا أى حاجه وحشه تتعمل فيكم . ترك الأب عنقه المعلم و كأن كل ما حدث قد أزاح من على عينيه الغمامة، و رأى الحقيقه أن وجوده فى هذه القرية خطأ كبير من البداية ، ولكن قبل مغادرة الأب لبيت المعلم نظر إليه فى صمت، والمعلم واقفا أمامه فى ثقة المنتصر ، ففجاءه الأب بمسك رأسه وقام بخبطها إلى الحائط المجاور فسقط المعلم مغشيا عليه ، غادر الأب دار المعلم و ذهب إلى داره قائلا لزوجته . - حضرى حاجتنا إحنا هنمشى باليل . فرحت الزوجة و كأن حملا ثقيلا انزاح من فوق صدرها و ردت عليه فى سعادة . - حاضر حاضر يا عادل ..بس هو فى حاجه حصلت ؟ - لا مفيش أنا قرفت بس من البلد دى وعايز أمشى، و الشيخ عتمان مشكور استضافتنا طولت . حاولت الزوجة تصديق كلماته التى نطقها بصوت امتلئ بالحزن ، ثم تساءلت في حيرة : - طب والناس اللى عايزة تقتلك ؟ ضرب الأب بيده فوق الطاولة التى أمامه . - أرض الله واسعة هنروح أى حتة هيلاقونا فين يعنى . (٥) جاء المساء و جهزت الزوجة متاعهم المتنقل معهم من هنا وهناك، و مريم تشكر الرب على تلك اللحظة التى تمنتها من قلبها و الشيخ عثمان واقف بجانب الأب يتساءل : - يا عادل ما إنت لو تقولى إيه اللى حصل حد زعلك . فأجابه عادل في حزم : - لا يا شيخ عتمان مفيش حد زعلنى أنا قولت كفاية كده . ضرب الشيخ كفا بكف . - كفايه ايه يابنى دا انتوا مكلمتوش أسبوع . - حلو أوى كده يا شيخنا، أنا كنت ناوى مطولش أصلا . قطع حديثهما طرقات الباب المفزعه ، ففتح عادل الباب ليجد رجال ملثمين غير واضح من ملامحهم شيئا إلا اعينهم، تحدث فردا منهم - فكرك يا عادل هتهرب مننا لما نبعتك لمحمد، سلملنا عليه و جوله إن أخوك سعيد جبلك حقجك . وقبل أى حركه تصدر من الأب أمسكه أحدهم من ملابسه ليقوم بجره على الأرض، حاول الشيخ أن يدافع عنه ولكنهم قاموا بتوثيقه بالحبال ، ومنعه من الحركة ، و أبرحوا الأب ضربا فسقط على الأرض والدماء تسيل من رأسه إلى عينيه، حاول أن يبقى عينيه مفتوحتين، ليرى مشهده الأخير ، كانت ابنته تصرخ وتبكى وتحاول أن تبعد عنه هولاء السفاحين، ولكن الأم سارعت لتحتضنها وتمنعها من الوصول إلى أرض المعركة، حتى لا يصيبها أذى ، استغاثت الام بأهل القرية ، تصرخ وتبكى وتصيح ( الحقونا يا خلق انجدونا يا هو ) ولكن فضل الجميع أن يكونوا مشاهدين دون أن يتدخل أحد ، ليقترب ذلك المعلم وينظر إلى عادل شامتا بما أصابه، ومازال الشيخ عثمان ملقا على الأرض مربوط اليدين ، فجاء سعيد و وضع قدمه فوق صدر الأب قائلا . - عشت جبان و موت كلب ذليل يا عادل . و أطلق النار فى قلبه وفارق الحياة ، عم الصمت فى أرجاء القرية و رحل السفاحون من أرض المعركة ،جلست الأم بجانب جثه زوجها ضامة رأسه إلى حضنها، تنهمر دموعها تشعر بالضياع و قلبها مفتورا على فراق حبيب عمرها و زوجها، أما الابنة وضعت رأسها على صدر والدها تصرخ وتبكى والشيخ عثمان واقفا مصدوم لما حدث غير مصدق أن صديق عمره قتل أمامه وهو عاجز عن فعل أي شئ . وصلت الشرطة ليقوم أحد الرجال بسؤال الشيخ : - ها يا شيخ قولنا إيه اللى حصل ؟ نظر الشيخ إلى مريم وماتيلدا و جثة صديقه المغطاة برقعة بيضاء ملطخة ببقايا دمائه . - معرفش يا باشا أنا خرجت على صوت ضرب النار وماشوفتش حاجة . أشعل المحقق سيجاره و نظر إلى الشيخ . - وأهل القرية ماشوفوش حاجة ؟ - معرفش أهم عندك اسألهم . استجوب المحقق العديد من أهل القرية، الذين أنكروا أنهم شاهدوا ما حدث ، أغلقت القضيه و قيدت ضد مجهول ، رحلت مريم و والدتها عن القرية وعادوا إلى المنيا للعيش مع الجد والجدة من ناحيه الأم . (٦) كملى يا مريم بعد قتل أبوكى عملتى ايه ؟ قالها الطبيب النفسي أدهم متولى وهو جالس أمام مريم الشاردة فى ذكريات طفولتها ، أخذت نفسا عميقا ومالت برأسها ناحية اليمين . - كبر جوايا كرهى للمسلمين، كل ثانية كانت بتفوت من عمرى كان كرهى بيكبر ليهم لحد ما اتخرجت من كلية الطب ، و بدأت منها إني آخد حق أبويا، أنا قتلت ٤٠ مريض مسلم خلال سنة واحدة ، مع كل مريض كنت بموته كنت بحس إني بموت كل واحد من أهل القرية اللى شاركوا فى موت أبويا، نفذت وصية أمى الله يرحمها يا دكتور وأخدخدت بتار أبويا . وضع الطبيب يده أسفل ذقنه متحدثا لمريم . - و الأيام اللى فاتت و و جودك فى المستشفى ورفضك التام للكلام و عدم اعترافك كنتى ساكتة ليه طول المدة اللى فاتت دى انتى بقالك ٤٠ يوم فى المصحة ؟ عقدت مريم حاجبيها و انكمش وجهها . - ٤٠ يوم إيه، أنا لسه جاية امبارح ، آخر مريض قتلته كان امبارح لما الممرضة زينب دخلت عليا وأنا بقحنه بأبره الهوا، ٤٠ يوم إيه دول ، بس عارف يا دكتور أدهم اغنا لو رجع بيا الزمن كنت منعت بابا من المرواح للقرية المعلونة دى كنت صرخت و فضحت المدرس اللى اتحرش بيا ، كنت ضربت خديجة بالقلم عشان عاملتنى المعاملة دى ، كنت غيرت حاجات كتير إلا حاجة واحده مكنتش هعرف أغيرها وهى موت أبويا فكنت بردو هقتل فى المسلمين مستغليه مهنتى، النتيجة واحدة يا دكتور النتيجة واحدة . تنهد الطبيب و أعاد ظهره إلى الخلف ضاربا جرس النداء للممرضة ، لتأخذ مريم إلى غرفتها ، دخلت الممرضة و وقفت بجانب مريم وأمسكت ذراعها حتى تنهض ، و لكن قبل أن تغادر غرفة العلاج النفسي نظرت إلى الطبيب نظره هائمة وتساءلت في ضعف : - هو أنا هفضل أكتر من كده هنا ؟ هتحول على النيابة امتى أنا بقالى ٤٠ يوم هنا و أعتقد إن حالتى النفسية كويسة وأنا مش فاهمة سبب وجودى هنا ، ولا أنا متهمه فى إيه، أنا عايزة أروّح ماما أكيد قلقانة عليا انتوا عرفتوها إنى هنا ؟ ابتسم الطبيب ابتسامة خفيفة ليجيبها : - أيوا يا مريم عرفناها، متقلقيش روحى مع الممرضة دلوقت وبكرا نكمل كلامنا وأقولك هتخرجى من هنا امتى . خرجت مريم ، لينهى أدهم كتابة تقرير الرسمى للنيابة عن حالة مريم عبد ربه ، وأخرج دفتر مذكراته الذى اعتاد أن يسجل به بعض الحالات الغريبة ( مريم مريضة فصام ، الأمر بدأ معاها بالاكتئاب العصابى ثم تحول لذهانى لأن من تحريات النباية اإن الأم ماتت بعد وفاة الأب بأسبوع حزنا على فراقه، و إن اللى تولى تربيه مريم جدتها وجدها يعنى كان عندها هلاوس و ضلالات كل المدة اللى فاتت دى ، كانت بيتهألها إن أمها مازالت عايشة و بتنمى جواها كرهها للمسلمين و حاولت الانتحار فعلا أكتر من مرة، واللى منعتها جدتها ، مريم حاليا جواها شخصيتين واحدة عايشه بكبت كرهها للمسلمين و فى خانه ذكريات الطفولة ، المؤلمه و واحدة بتخرج كبتها فى انتقامها من اغى فرد مسلم وبتثأر لوالدها اللى اتقتل قصاد عينيها ، قد إيه المجتمع قادر يحول طفلة بريئة لسه ملاك لوحش كاسر و قاتلة محترفة، قد إيه المجتمع قادر يلعب فى سيكولوجية الطفل و يدمره ويبنى شخص محطم ومدمر ، مريم ضحية مجتمع عنصرى و تار كان بيطارد اغبوها وما انتهاش بقتل أبوها بس، وقتل مريم بالحياة، مريم ضحية وليست جانيه ولكن دائما القانون له رأى اخر ) ....
TAG

عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *