-->

اقتباس من فيلم ساعة ونص بقلم/ وسام النقيب


وبالرغم من امتلاء جسدها إلى حدٍ ما إلا إنه قد جمعها بين ذراعيه يشتم عبيرها بقوة ويقبل وجهها وكل تلك التجاعيد التي تحكي كل ما تحملته وتتواتر عليه الذكريات تحكي قصة كل واحدة منها .

تحكي معاناتها مع سهرة كل ليلة مع أصدقاءه ولا يعود قبيل طلوع الشمس .

تحكي تلك المرات العديدة التي خرجتْ فيها مع الشروق تبيع بعض الجبن والألبان التي عكفت عليها لأيام لتسد جوع تلك الأيام.

تحكي قساوة الحياة والعادات والتقاليد معها عند وفاة زوجها بينما هو رضيعٌ في يدها .. هذه الأرملة ذات الثمانية عشر ربيعاً آنذاك ترفض زواج بالإكراه مجدداً تحمل طفلا لم تجد له معها مكان في بيتها.

ابتعد قليلا ينظر لتعابير وجهها المستغرب ة لفعله، فدهب بنظره بعيداً؛ ليقدر على قراره وعقله يردد:
"ما باليد حيلة....."
وضميره المنفي بعيداً يردد:
" عاندت الجميع لتربيني"

وبين هذا وذاك قد سبق العزم مع ابتسامة كاذبة وجواب مطوي بيدها ومطالبة بالانتظار لخمس دقائق ...خمس دقائق قد تعني المتبقي من عمرها.

وبينما هي على مقعدها بين الراحلين تتابعه بصمت وببراءة تنتظر مرور الخمس دقائق حتى غفت تستند بوجنتها على الزجاج غافلة عن مغادرة ابنها لمحطة القطار وكذلك القطار .

قطار يتحرك بسرعة رتيبة ينقلها إلى المجهول، وبين صوت بائع الفريسكا وصرير احتكاك عجلات القطار بالقضبان والمحادثات الجانبية للراكبين استيقظت على المحصل يجمع ثمن التذاكر ، وهي تنظر حولها بريبة وفزع تتلفت يمينا ويسارًا وتردد 
"أين أنا !! "

" أمي ، هل أنتِ بخير ؟! "
التفت إلى مصدر الصوت بسعادة فوجدت شاب يشبه ابنها "عبد الرحمن" بثيابه الرثة ورائحة البنزين، ويجلس بجانبها بخفة بعد أن دفع للمحصل ثمن تذكرة لكليهما وأخرج شطيرة بسيطة من جيبه .

وبتغافل تام عن استفسارها عن مكان ذاك العبده ، قال ببشاشة مخادعة :
" لست عبد الرحمن
أنا سامر ولكن هل يمكنني أنا أناديكِ أمي !! "

قالت بحنان فطري وتلك الحمرة تعلو وجهها بالرغم من سنينها الخمسين :
"ااا طبعا .. يمكنك ، فأنت تقريبا بعمر ابني ، ولكن هل تعلم ......"

قاطع استرسالها وهو يقسم شطيرته و يقدمها لها معلقًا بمرح :
" إن كنت كذلك فهل تقبلين من ابنك هذه الشطيرة المتواضعة"
لاحظ ترددها ، فقال :
" لا تخافي، إنها مجرد شطيرة جبن ... أو من الممكن أن تقلقي ابنتي الشقية هي من أعدتها، أحيانا يصيبني طعامها بتلبك معوي، سأضطر لتغيير معدتي قريباً "
أخذت منه الطعام وهي تخبيء وجهها بخمارها بينما تضحك على استحياء، و تأكل بهدوء بالرغم من ظهور الجوع جلياً عليها، فمضى يحدثها بأي شيء يشغلها مؤقتاً عن السؤال الذي لا مفر منه .

أخبرها عن تلك المرة التي وضعت بها ابنته السكر في الطعام ليصبح أفضل وتعلق بكل براءة بأن السكر يوضع في الحلوى..
أو عن المرة التي أرادت فيه أن تقلي البطاطس بالبنزين لعدم وجود الزيت، وتقول أن كليهما من الزيوت ..

ذهب ارتباكها شيئاً فشيئاً وأكلت طعامها ، وهي تمسح بيدها دمعه نزلت الآن من شدة ضحكها، بينما هو موقن أنها بعد قليل ستنهمر حزناً انفطر له قلبه، ولم يجد بعد طريقة رحيمة ليخبرها بما علمه من الجواب الذي كان في يدها ووقع أسفل منها.

" لقد أكلت مع أنني كنت أنتظر ابني لأتناول الطعام معه ، لا أعلم أين هو ولماذا تأخر "

فقال سامي باستفسار كمحاولة أخيرة :
" هل لكِ أقارب في العاصمة ، فأذهب بكِ إلى هناك "
رفعت كتفيها وأخفضتهما بتلقائية ، وقالت :
" بلى لي ، بالتأكيد لدي .. لكل منا أقارب يا بُني ولكن لكل منا حياته لا يعلم أحد عن الآخر شيء ، لا نتقابل في الأفراح ولا الجنائز "
استفسر بألم :
" هل تعلمين مكان تواجدهم ، على الأقل أرجوكِ "
أجابت وتقاسيم وجهها تصرخ بالألم عن جرح غائر ورضا تام اجتمعا في لوحة بديعة :
" لا ، كان ذلك منذ زمن بعيد ، لا أعلم أماكنهم الآن ولا تلك البلاد التي يأخذني القطر لها ولا الأراضي التي نمر بها أو لماذا سأذهب من الأساس، لا أعلم سوى ابني وبيتي الصغير ، ليس لي أحد بعد الخالق سواه، وكذلك هو لا يعلم أحد سواي أنا ربيته وحدي "
عادت للبكاء وهي تكمل :
" انا من اصنع طعامه واغسل ملابسه ، هو رجلي الوحيد هو فقط .. أين أنت يا بني !!؟
أين أنت يا عبد الرحمن !! "
تفلتت من سامي بضع دمعات وقرر أن يضعها أمام الأمر الواقع 
" أمي آسفٌ لكِ ، ولكني سأخبرك بالحقيقة "
ضربت صدرها بكفيها ، وتحولت شهقاتها للبكاء المرير والفزع يملأ ملامحها :
"ولدي ... هل أصابه شئ "
كاد أن يجيب ولكنها تمسكت بيده تضغط عليها ، وقد جذب عويلها أنظار الجميع :
" أرجوك ، طمئني عليه ، أخبرني أنه بخير "
" هو كالحصان ، لا كالقرد لقد كتب في الورقة أن من يجدك يضعك في أي دار للمسنين "
خف ضغطها على يده وسقطت إحداهما بجانبها وخلى المكان من صوتها ولم يتبقى سوى شهقات الراكبين ، وطال صمتها حتى خشي أنه قد أصابها بسكتة قلبيه ربما .
يحاول أن يطمئن عليها يلعن تصرفه وطريقة إخبارها ، وزفر براحه أنها ما زالت على قيد الحياة عندما سمع تنهيدتها ، ولكن شك كونه هو كذلك بعدما سمعها تقول :
" اااه هكذا إذا ، حمداً لله إنه بخير "
وأكملت بنبرة حزينة :
" إنه ذنبي ...
أسفة يا ولدي لقد أثقلت كتفيك بمرضي "
أمسك سامي كتفيها ويهزها بصدمة :
" ما الذي تهذين به يا امرأة اقول بأن أن ابنك تركك ، لمن تعتذرين !! "
ابتسمت بلطف ووضعت يدها على وجهة تمسح سيل دموعه وتقول :
" أنا مريضة بالسكري يا بني ولم أتناول دوائي منذ مدة ولقد طالبته به ليلة أمس"
ومن ثم عادت للبكاء :
" كيف ستعيش يا عبده
كيف ستعيش يا ولدي ، من سيطعمك ، من سيهتم بك ... "
قاطعها :
" أمي ... إنه...هو.... أنتِ......."
لم يستطع أن يجد ما يكمل به وهو يبكي بكاءً شاركه فيه جميع الراكبين بعربة القطار فارتمى بنفسه بين أحضانها يغمر وجهه في حنان أم ، وإن كانت أماً لأحدٍ آخر وظل يردد بأسى :
" رحمتك يا الله "
"رحمتك يا خالقي "

                                                                   
TAG

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *