-->

ضحايا الأقدار- قصة- ياسمين سعد



ف الإسكندرية  "عروس البحر المتوسط"،
 كانت مياه  البحر تمتد كبساط لازوردي ناعم،كان الجو هادئاََ واخيراََ استعاد اعتداله بعد عواصف متتالية، وعاد لعروس البحر مزاجها الرائق، كان البحر يرسل أمواجه الناعمة لتلاطف الرمال بنعومة و كانت تحمل انعكاسات الألوان علي صفحتها ، ولكن ما كانت تراه عينا " زين" مختلفة تماماََ لأنه انعكاس ما بداخله. 

" زين " هو شاب لم يتجاوز الثلاثين من عمره، لديه مسحة وسامة، وقسمات وجهه مريحة، يمتلك  وجهًا نبيلا يحمل الكثير من الثقة والراحة، ولكن ما بداخله كان حزناََ لم يستطع أحد أن يقاسمه إياه ، لأن ما مر به من عدة كسرات متتالية جعلت منه جسداََ دون قلب، وكأن هذا العضو بداخله خلق فقط لضخ الدم لكي يعيش، فهو شاب فقد والده وهو لم يتجاوز العاشرة من عمره، فأصبح مسئول عن والدته في سن مبكر جداََ، التحق بكليه طب جامعة الإسكندرية و كان متفوق و ذكي و لم يستطيع أحد منافسته، فأخذ سنين الدراسة ف تقدم مستمر و تقديرات مرتفعه، كان يظن أنهم سيقومون بتعيينه كأستاذ متخصص  ففالكليةبعد  سنوات الدراسة، ولكن ما حدث فاق التوقعات. 
و لكن   حب وشغف  "زين" لدراسته و مجاله أهله ليتخصص ف مجال هندسه الكهرباء الحيويه حيث يهتم هذا الفرع من الهندسه الطبيه بالنشاط الكهربائي الحيوي في الجسم الذي يتضمن النشاط العصبي، و قام بكثير من الأبحاث و التجارب العلمية، حتي استطاع استنتاج أنه يمكن زراعة أقطاب  الكترونية في دماغ مريض مصاب بشلل دماغي تحمل ذكريات من شخص آخر، ويمكن للمريض اللستفادة من هذه الزكريات ف تعلم و تحسين حياته و تغلبه علي مرضه، لإعتقاده أن الإنسان  هكذا  لم يتغير فليست الذكريات من تصنع الشخص ولكن قلبه و روحه و وجدانه ما تفعل هذا، ولكن لم  يستطع أن ينسي ما حدث ف المقابلة مع دكتور " ادورد " المسؤل من جامعة "ديوك" ف الولايات المتحدة الأمريكية ، فتلك ما يراها أمامه و هو جالس علي رمال الشاطئ وكأنها تحدث الآن ..

الدكتور "أدورد " هو رجل كبير يبلغ من العمر ما يفوق الخمسين عاماََ ، لكنه قد اجتاز أكثر من ثلثي عمره في مصر و خالط أهلها كثيراََ حتي استطاع أن يتحدث مثلهم.
دلف زين إلى مكتب  "أدورد " بخطوات تحمل الكثير من التوتر ووجهه يكسوه الخجل، وجده يجلس علي مكتبه الزجاجي الفاخر والذي يعكس صورته و كرسيه المتحرك فقام و مد يده ليصافحه و جلس وأذن له بالجلوس قائلاََ :

_ دكتور زين، سعيد جداََ إني شوفت حضرتك  واتعرفت عليك.

رد " زين" عليه بصوت مهزوز و لكنه يسارع لينطق الكلمات بشكل صحيح.

= الشرف ليا انا، حضرتك طلبت تشوفني..

قاطعه و أخذ ينظر إليه و بنظرات مليئة بالحزم..
_ نعم.. أتيت لمصر في زيارة، كنت محتاج اشوف اللي قدم البحث بتاعه للمجلة العلمية عشان ينشرها و أعرفه جيداََ عشان لفت نظري سنك الصغير و المقال بتاعك عجبني، ممكن تشرحلي الفكرة بتاعته..

اخد يجمع كل أجزاء جسده لأنه يشعر أنه مراقب و كأن كل شئ حوله صمت لينتظر أن يسمع ما سيقوله فاعتدل ف جلسته و نظر في عين الدكتور أمامه و تحدث بنبرة مليئة بالثقة ليخفي توتره و اخذ يشرح له ما قام بدراسته والأبحاث التي قام بها ف مجال الهندسة الحيوية..قاطعه مره أخرى بنبرة متعجبة و نظرات متوهجة وكأنه يريد الإيقاع  به.

_  عملت تجارب علي بتقوله ده  ولا لأ ؟
شعر  " زين" بتوتر شديد و قد تصبب عرقاََ

= للاسف لأ ، بس بالأبحاث اللي عملتها واللي إتوصلت ليه ف النهايه كان مؤكد. 

قام بالنظر إليه و عاد الي الأوراق التي أمامه و عقد يديه أمام صدره و تحدث بنبرة ممتعجرفة. 

_ علي أساس أن مصر قادرة توفر ليك إنك تطبق التجارب دي، مصر معندهاش الإمكانيات أو الكادر و القدرات اللي تؤهلها لخوض تجربة زي دي، أضعف من إنها تأخذ خطوه متقدمة في المجال  ده.. 

قام " زين" من مكانه و تمالك أعصابه حتى لا يقوم بصنع مشكلة كبيرة في مكان بهذه القيمة العلمية، و تحدث بنبرة فخر و اعتزاز و نظرات ثقة و لكن  ملامحه مليئه بالغضب.. 

= أنت جيت هنا عشان مقال أنا كاتبه وأنا مصري و عارف إن بلدي ممكن تقدملي لو أنا محتاج بس أنا مطلبتش مساعدة من حد حتي منك مع احترامي ليك طبعاََ بس كوني مصري ميقللش مني ولا من علمي لان اللي  اتعلمت ف مدارسها كانت  مصر و اللي خلت شخص زي حضرتك يطلبني بالاسم  مصر.. 

قاطعه بصوت متقطع و هو يتصنع الهدوء  ليعدل من توازنه الداخلي . 
_ ولكن أنا أستطيع أن اتبني مقالك و لكن تمسكك بدينك و عقيدتك و كونك مصري مش هيساعدك لأنك هتكون تحت الملاحظه دايماََ لكن لو انصهرت ف فريق مش بيبص علي الحاجات دي و فيه مصريين غيرك أكيد تختلف كتير، أنا عيشت هنا قد عمرك و عارف أي اللي  بيحصل هنا أكتر منك و من ناس كتير فاكرة إنها تعرف حاجة، هتخسر حاجة بس هتكسب نفسك، فكر و رد عليا. 

نظر إليه وهو متعجب من حديثه كيف لشخص انصهر بداخل المصريين و يعلم كل شيئاََ عنهم من طيبة قلب و صفى نية ان يذم بهم، كل هذا يجول ف خاطره و لكن تحدث قائلاََ :"

= يؤسفني إني أقولك أنت عرفت عنهم كتير بس متعلمتش   منهم حاجة خالص، حتي مصونتش إنك أكلت من أرضهم ودا شئ مقدرش أتعامل معاه أو الوثوق فيه.. 

وقام " زين" من مكانه و أخذ بجمع أوراقه و أعطى الدكتور "أدورد " ظهره و خرج من باب مكتبه ف وسط نظرات مليئة بالحقد  فقال" أدورد " بغضب.. 

_ هتخسر أغلى ما تملك و هتجيلي تترجاني أخدك وأنا وقتها اللي  هقفل بابي ف وشك.. 

ولم يمر ألا  قليل من الأيام من هذه المقابلة حتي سمع بخبر وفاة أمه من جيرانه و هو عائد من عمله، فقد وجدوها تستغيث وعند وصلهم كانت قد  فارقت الحياة، وجدوها قتيلة في شقتها ولكن لم يتعرفوا على القاتل وقاموا بتقيدها" ضد  مجهول" ولكن ف نفس "زين" لم يكن مجهولاََ فمازالت جملته تتردد علي أذنه حتي الآن " هتخسر أغلى ما تملك و هتجيلي تترجاني أخدك ....." ولكن لم يستطع التحدث عما يجول ف خاطره، و اندلع الغضب ف صدره حتي شعر بأن النيران تتطاير من عينه، ولم يجد نفسه ألا أمام مكتبه وهو هزيل و الغضب يعمي عينه و يتحدث بصوت عالي باكي يشبه الصراخ. 

=  عارف إنك أنت اللي عملتها، بس لييييييه، ليييييه تعمل كدا لييه تاخدها مني مكنش عندي غيرها، كانت آخر حاجة عايش عشانها. 
وقد قام رجال  " أدورد " بالإمساك ب "زين" و تكتيف جميع أطرافه و تقدم الدكتور ف إتجاهه و قام بتحدث بنبرات تهديد و تعنيف شديده. 
_ مش هتقدر تثبت اللي بتقوله، حتي الأبحاث بتاعتك عندي رجالتي جبتهم، وحالياََ أنا مش محتاجك ف حاجة بقيت عبارة عن كارت محروق.. 
اخذ " زين"  يثور بين أيديهم و يحاول الافلات من بين ضلوعهم و لكن قبضتهم كانت أقوى و أشد وقاموا بضربه و تكسير ضلوعه حتي نزف الدماء وقاموا بحمله ورميه بعيداََ بعد أن فقد الوعي ولم يستيقظ إلا على الشاطئ ملقى على الرمال. 

اخذ يجول بنظراته ف جميع الاتجاهات، قام بضم ركبتيع إلى صدره و أخذ يبكي و يبكي و كأنه فقد امه الآن، نهش الحزن قلبه، فكيف لشاب لم يتجاوز الثلاثين أن يفقد كل هذا، الأب و الأم و ماكان يجاهد للوصول إليه فلم يَعد يوجد شيئ لكي يستمر ف الحياة، فمازال يتذكر حديث والدته وهي تقول أنها فخورة به، فكيف أصبح سببا ف فقدها للحياة، فكيف من أطعمته و جعلت منه شيئاََ أن تفقد الحياة مقابل هذا، شعر بأن كل هذه النيران يجب أن تنطفئ فعزم النهوض رغم الآمه، واخذ يخطو  بخطوات متثاقلة تأخد مكانها ف الرمال  تحفر مكاناََ لها لعلها تثبت وجودها ف هذا العالم لمرة على الأقل وحتي ان كانت الأخيرة، و بدأ بحذائه الأبيض الانغمار في الماء، وصولاََ الي جسده فتجمد من شدة برودة المياه، حتي انغمرت عيناه بمياهه المالحة للبحر المتوسط ، فأغلق عينيه متذكراََ صورة والدته الأخيرة و هي تقول " سأنتظرك حتي تعود" معلناََ انتصار الحياة عليه مودعاََ العالم أجمع رغماََ عنه.............. 

" يمكننا الانتصار ف النهاية، ولكن بسلب اروحنا  لحمايتها.." 

TAG

هناك 9 تعليقات

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *