-->

تيكال-قصة- نوير يوسف ‏

                             
        "تيكال " 


كان اليغور يتجول في الأرجاء، و الطيور تجوب المكان و هي تعزف نوتة راقية، الأناكوندا لا تزال تصدر ذاك الفحيح المنذر بالشؤم ، و بالقرب منها هناك كان زوج من الكاسوار يلهو غير عابئ بالأمطار التي تهطل على رأسه . كانت خيوط ذهبية من ضوء الشمس فقط من تستطيع العبور من الأشجار الكثيفة لغابة جواتيمالا التي كان يسير فيها (كاي) و (كورد) . لقمة تلو الأخرى من (السندويتش) يلوّكها كلّ منهما بركن فمه الأيسر بعد أن أرخى ظهره على شجرة خضراء قارب لونها أن يكون زمرّديًّا ، فقال (كورد) في سأم :
إذن! تبقّى بضع أمتار كما تقول .
_ نعم! على ما يبدو .
قالها (كاي) و هو يمطّ شفتاه في سخط ، فاستطرد في حنق :
_ هيّا! لن تقضي اليوم بأكمله تأكل كخنزير برّي!
فقام (كورد) من جلسته متأفّفًا و تابع السير بثيابه الرّثة  و هو يلوك العلكة ثمّ ينفخ فيها لتمتلئ كبالونة ثم تنفجر بعد عدة ثوانٍ لتترك أثرًا من العلكة اللزجة على شاربه الملتف . قال و هو يشير بسبابته إلى الأمام و يضع قدمه اليسرى على صخرة كجنرال في صورة بعد انتصاره في معركة ما : تيكال!
فقال الآخر في فتور :
_ نعم لنذهب .
بعد بضع دقائق كانت رؤية تيكال بأكملها ليس عسيرًا على (كاي) و (كورد) . الهرم الرباعي ذو الأحجار السوداء
التي ابيضّت عدة أحجار منه لعوامل التعرية ، و الأكواخ المتناثرة في بقاع المكان يعتليها قش مهترئ يؤدّي دور سقف الكوخ كما ينبغي . كانت طبيعة جواتيمالا تروق كثيرًا (لكاي) الذي ظلّ يرمق آثار العصر الكلاسيكي بعين لامعة ، و بوجه يعجّ بالفرح قال : منذ نعومة أظفاري و أنا أتمنى خوض تلك المغامرة يا (كورد) ، و هأنذا أحقّقها في عقدي الثالث . اليوم نكتشف سبب انهيار حضارة المايا! و ذاك الهرم هو دليلنا.
ثم تعالت منه الكلمات بلهجة آمرة ترضي نرجسيته : هيّا! إذهب و افعل ما اتفقنا عليه .
فذهب (كورد) بينما (كاي) وقف أمام الهرم فخلع حقيبته و أخرج منها حبلًا سميكًا ينتهي بخطاف معقوف أشبه برأس المنجل . ظل يلفّه في الهواء عدة مرات و السكّين المعقوف يقطع الهواء مصدرًا صوتًا مهيبًا . تنهّد هنيهة ثم ألقى بالحبل ، ثوانٍ كانت كافية لتحديد مصير المهمة . الحبل يصعد لأعلى و معها تصعد روح (كاي) من كثرة الهواجس . صعد الحبل لأعلى ثم انحنى فوَلج من الفُتحة المتواجدة أعلى الهرم كما أراد (كاي) . ظهر على ثغره ابتسامة حين قام بشد الحبل فلم يسقط لأسفل ، فقال محدثًا نفسه بلهجة انتصار :
_ تشبّث الخطاف بالأحجار!
ربط الحبل حول خصره و بيده الخشنة قام بالتسلق صاعدًا سلم طموحاته . بضع دقائق كانت تكفيه ليتسلق الهرم ذا القامة المتوسطة . صعد إلى القمة فعقد حاجباه في تحدٍ ، ثم أخذ يهوي . كل بضع أمتار يقوم بدفع الجدار فيبتعد و يهوي ، ثم بالجاذبية يعود إلى الجدار تارة أخرى فيدفعه و يهوي حتى لامست قدماه الأرضية . كان الأمر أشبه بمقاطع التدريبات العسكرية التي تظهر على التلفاز . خلع (كاي) الحبل من على خصره و أخذ يتأمل شباك العناكب في حنق . نقوش باللغة المايانية ترجع للعصر الكلاسيكي تُزين الجدارن و تنشر السرور كما اعقتدوا . و ما أن وقعت تلك النقوش على مرمى ناظري (كاي) حتى تعالت صوت همهمات لم يتبين كنهها ، و علاوة على ذلك دوّى صوت طنين لم تتحمّله أذناه . إنّها أسطورة الهرم كما في قرأ في كتاب دليل الأساطير! نادى (كورد) يستغيث به بصوت جهوري ، لكن كان يستحيل على (كورد) سماع استغاثته و هو يقوم بإلهاء رجل الأمن الذي يقف ليحرس الأثر و هو يلوّك لفافة تبغ في اشمئزاز . شعر (كاي) بالمكان يهتزّ فرأى الغبار في أركان الهرم ينتشر فسعل (كاي) بقوة و هو يلتقط أنفاسه بصعوبة وسط نقص الأكسجين في الهرم من الداخل . و وسط تهشم شباك العناكب ، و الطنين في أذنيه ، عيناه أصبحتا ثقيلتين يستحيل فتحها كأنها تزن أطنانًا . و قدماه تخور قواها فيجثم على ركبتيه يلهث . اسودت الدنيا من حوله فغدا لا يرى شيئًا سوى بضع ومضات ، حتى اسودت دنياه فسقط مغشيًّا عليه .

* * * *
صوت صيحاتٍ يدوّي في أُذُني (كاي) التي بالكاد تقوى على أن تقوم بعملها بعد الطنين . استيقظ (كاي) من غفوته فوجد نفسه داخل الهرم كما كان ، أعاد ربط الحبل على خصره، لكنه لا يستطيع ملامسة الحبل! عاود المحاولة لكن بلا جدوى . يده تخترق الحبل في كل مرة! فطِن حينها أنّ ليس له وجود مادّي ، فقام باختراق الهرم كأن روحه قد انفصلت عن جسده البالي . وقف أمام الهرم يرمقه في حيرة ، لكن شيئًا مختلفًا قد شعر به ، فقال في نفسه و هو يمسك بأذنيه من الألم :
_ غريب! الأحجار أكثر بياضًا ممّا هي عليه!
ثم ألقى نظرة لما حوله فرأى الأكواخ تعجّ بالناس الذين يرتدون ملابسًا غاية في البدائية ، كان الرجال يرتدون زيًّا موحدًا من جلد الأبقار . أما النساء فقد تزيّنّ بقرط مذهّب و رداؤهنّ كان مشابها للرّجال على خلاف أنّه كان من صوف الخراف . تنهّد هنيهة فسار بينهم بخطًا مترددة . قال لأحدهم بمايانيّة رديئة لا يعلم إن كانت صحيحة أم لا :  في أيّ  سنة ؟
_ في العام
قالها الرجل و هو يحمل دلو الماء بيده عائدًا إلى الكوخ فيتساقط منه بعض قطرات الماء فيُتبِع السير غير عابئ بها . و لسوء الحظ .. (كاي) لا يعرف الأرقام المايانيّة! لكن في أي حقبة سيكون سوى العصر الكلاسيكي؟! 
أطبق الصمت على المكان هنيهة ، كلّ يعمل في صمت .
حتى صاح أحد الرجال :
_ تنين! .... نار! ....
كلمتان استطاع (كاي) فهمها - من سيل العبارات التي قالها الرجل - كانت كافية لفهم الوبال الذي سيودي بهم عمّا قريب . تنّين يقف بقامته الشاهقة يرمق الأكواخ و الدخّان يتصاعد من منخاريه فيملؤ المكان سحابًا أسودًا . زفر بقوة فانطلقت النيران تحرق الأرجاء . رأى النيران تتجه نحو رجل في كوخ بجانبه لتنتزع روحه فيُقضَ نحبه بأبشع طريقة ممكنة بعد أن يستحيل جسده إلى رماد . رأى أحجار الكوخ تحترق فيتبّدل لونها إلى الأسود القاتم . حينها اتّضحت المفاهيم ، كانت أحجار الكوخ بيضاءة لكنّ التنين بنيرانه المتأجّجة جعل من احترق منها لونه أسود قاتم كئيب . كان كل ما يمكنه فعله هو مشاهدة تلك المأساة عن كثب ، لا يمكنه لمس شئ حتى . رأى رجالًا تئن و هي تحترق و أصابع أيديها شرعت تتحول إلى رماد يتناثر على الأرض . و رأى طفلًا يبكي بشدة و هو يرى أمّه تعانقها النيران و هو عاجز عن تقديم المساعدة . كان الأمر أشبه بالمحرقة الجماعيّة حين يكثر الأموات ، لكنّهم ليسوا كذلك! إنّهم أحياء و يستحقّون ميتة أفضل على الأقل . حينها ذرفت دمعة من عيني (كاي) و هو يرمق الناس تحترق لتلحق بالأبديّة تاركة بعض الرماد في هذا العالم .....
كان الطنين ما زال يدوّي في أذني (كاي) ، و الدخان المتصاعد من جثث شعب المايا  يجعل التنفس متعذّرًا . فجلس (كاي) على الأرض يتلوّى كذيل الأفعى . شعر بغثيان شديد ، حتى استقر جسده على الأرض فغطّ في سبات عميق .
* * * *

كان الطنين يمزّق أذني (كاي) حين عاد إلى عصره تارة أخرى . صرخات الاستغاثة و بكاء الأطفال لا يفارق أذنيه، الرماد المتناثر لا يترك ناظريه . قام (كاي) بربط الحبل حول خصره كما فعل في المرة الأولى ثم تسلق الهرم . كرر نفس تكنيك الهبوط داخل الهرم في الهبوط خارجه . حينها استقبله (كورد) و هو يجفف شعره بمنديل بعد الأمطار التي أغرفته . فقال في حنق :
_ لماذا أخذت كل ذلك الوقت؟! ألم تقل أن الأمر بسيط ولا يستحق أن آتي معك حتى؟!
فردّ (كاي) و ابتسامة مصطنعة ترتسم على ثغره لتخفي ألمًا جسيمًا :
_ ضِعت في غياهب التاريخ إذا صحّ التعبير ، أسطورة  ثَورة التنين صحيحة . قد رأيت ما جعل شعر رأسي ينتصب ، و شفتاي ترتجف . رأيت تجسيد الألم في فَناء شعب المايا .
تأبط ذراعه ثم أردف :
فلنعد و لأحكِ لك تفاصيل ما جرى.



TAG

عن الكاتب :

هناك 5 تعليقات

  1. قصة مميزة يا نوير
    مشروع كاتب صغير ، بالتوفيق دايما

    ردحذف
    الردود
    1. جميل يا نوير انت وزمايلك اقلام المستقبل

      حذف
  2. قصه جديده بفكره غير تفليديه واري ان لها بعد سياسي
    ففي جزء من العالم صراعات ودمار وحروب وشعوب تحترق وتعاني لا تجد من بساندها او ينتصر لها بينما يعبش الجزء الآخر من العالم في سلام وهدوء غير عابئ بما يحدث لإخوانه في الإنسانيه

    ردحذف
  3. بداية متألقة.. رائع جداً

    ردحذف
  4. رائع يا نوه..قصه مليئه بالتفاصيل للاحداث
    احسنت واختيار موفق لتجسيد مأساه شعب المايا

    ردحذف

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *