صوت سارينة الشرطة يدوي في ذلك الشارع
و الناس متجمهرين بين فضولي وشامت
- يستاهلوا ربنا خلصنا منهم.
قالتها إمرأة في الخمسين من عمرها
- دول كانوا منجسين العمارة.
قالها الأستاذ فوزي المحاسب ليرد عليه حمادة القهوجي : وأنت كنت عارف باللي بيعملوه يا أستاذ فوزي؟
- طبعا دول بقالهم سنين شغالين في نجاستهم و يا ريتهم حلوين.
ليرد عليه حمادة بابتسامة صفراء : إلا و أنت عرفت إزاي يا أستاذ فوزي؟
- أنا متفوتنيش حاجة.
يهبط المخبرين و الأمناء و في يد كل منهم فتاة في ذلك الوضع الشهير ملفوفين بملائات وبعضهم الآخر بملابس مخلة و رجال آخرين لم يكلف الأمناء أنفسهم عناء سترهم فاقتادوهم بملابسهم الداخلية ما عدا رجل واحد كان في كامل ملابسه، أوقفوهم صفًا واحدًا في الشارع ، عاينهم الرائد محمد أشرف سريعًا و أعطى إشارته لجمعهم في السيارات استعدادًا لنقلهم لقسم الهرم ، و اجتمع الشباب يشاهدنوهم بعضهم شامت والآخر مستغفر و قليلين يشعرون بالحسرة لعدم علمهم بوجودهم أصلا !
نقلتهم السيارات إلى القسم وجلسوا جميعا على الأرض في القسم كل ينتظر دوره و الاجراءات واحدة :يعرضون على الظابط ، تؤخذ بياناتهم و ينزلون إلى الحجز استعدادًا لعرضهم على النيابة في اليوم التالي.
دخل الرائد محمد علي وكيل النيابة شريف علوان الذي يتابع إجراءات التسجيل و يعرض عليه المتهمين ، تثائب الوكيل في ملل و قال: محمد باشا معرفتش تجيبهم بدري شوية هتسهرني يا أخي حرام عليك !
- معلش بقى يا باشا خليها عليك المرادي.
- خليها عليا يا أخويا ماشي أخرني أنت ولا يهمك
ضحك الرائد وقال :منا قاعد معاك أهو أنا كمان خلص يا عم وأنا عازمك على القهوة بعدها.
- لا مش هنا ده أنا ليا عندك تار بايت من امبارح و ديني لاخلصه النهاردة.
ضحك محمد مجددًا وقال : هتفضل كده طول عمرك تتكلم و تقول، وآجي أنا كل مرة أديك على عينك في الطاولة.
ضحك المتهم الواقف أمامهم فنظر له محمد شذرًا وقال : بتضحك على إيه يلا ؟ خليك في حالك أحسنلك .
صمت الرجل ونظر للأرض في سكون .
جلس محمد مع وكيل النيابة الذي انهمك قليلًا مع المتهمين وقرر ادخالهم عليه على دفعات تسريعًا للوقت بدلًا من واحد في المرة بينما انشغل محمد في هاتفه دخلت مجموعة اأخرى إلى المكتب ، رفع محمد نظره في وجوههم التي ألفها بعد عمله في مباحث الآداب نفس ، نظرة الندم و الفضيحة و نظرتان أو ثلاث من عدم المبالاة نظرًا لتعودهم أو امتلاكهم علاقات تخرجهم ، توقف محمد عند وجه واحد بدا له مألوفًا إلى حد كبير فأشار له وقال : أنت سوابق يلا ؟
رفع الشاب عينه في وجه الرائد وقال : لأ.
- بس أنا شوفتك قبل كده
قال الفتى في عصبية قليلًا :أنا مش سوابق أنا معملتش حاجة أصلا.
قال الرائد في غلظة : أومال كنت بتعمل إيه هناك؟
تفحص محمد ذاكرته حتى شك في شيء ما، بحث خلال بطاقات تحديد الشخصية أمام الوكيل حتى وجد بطاقته واستأذن الوكيل أن يبقيه للنهاية ويخرج الجميع وافق شريف ففي النهاية لا يستطيع أن يرفض طلبا لمحمد فقد تعينا سويًا في نفس الوقت تقريبًا؛ فتكونت بينهم صداقة قوية خلال السنين القليلة التي عملوا بها معًا.
أكمل الوكيل التسجيل و الإملاء ، ولكن الفتى رفع رأسه مسرعًا وقال بصوت جمع بين الأمل و الخجل و المفاجأة :محمد اشرف !
نغزه الأمين في ظهره بغلظة لينبهه لحفظ الألقاب.
رفع محمد يده للأمين ليهدأ، وأشار للشاب برأسه أنه أجل هو فعاد الشاب للنظر للأرض بصمت مجددًا و استمر الوضع هكذا حتى انتهى التسجيل و اقتيدوا جميعا للحبس ما عدا الشاب الذي بقي بمفرده معهم.
قال محمد : خالد سيد، إيه اللي أنت عملته في نفسك ده يا ابني.
نظر خالد إليه في خجل فاشفق عليه محمد ؛ فدعاه للجلوس، و نظرة شريف مليئة بالاستفهام.
لم يسجل بياناته بعد حتى يرى ماذا يريد محمد.
شرح له محمد أن خالد كان زميل محمد في الجامعة في كلية آداب فمثلًا كثير من الشباب يقدمون على الشرطة أو الحربية وفي نفس الوقت ينتظمون للحضور في كليات أخرى كنوع من الاحتياط، حتى إن لم يوفقوا لا يكونوا قد أضاعوا سنة بلا فائدة و كان محمد منهم فقد تأخر محمد قليلًا بسبب ظروف مرض والده فلم يستطع الالتحاق بتسجيل كلية الشرطة في عامه الأول، فقرر بدلًا من الانتظار أن ينتظم في كلية أخرى احيتاطيًا، و العام القادم يسجل في كلية الشرطة و قد ساعدته علاقات والده كسفير سابق في هذا و في ذلك العام في كلية الآداب بجامعة القاهرة كان قد التقى بـ خالد ونشأت بينهم صداقة قوية، ولكن بدأوا في التباعد منذ أن دخل كلية الشرطة؛ بسبب انقطاعه لفترات طويلة ثم ابتعدوا أكثر بعد التخرج وانشغال كل واحد منهم في طريقه.
كان محمد يشفق كثيرا على خالد منذ أن كانوا في الجامعة؛ فخالد كان شخصية خجولة حالمة لا يستطيع التعبير عن مشاعره بلسانه.
جلس خالد و تحدث محمد مع شريف سرًافي أذنه فتأفف من طلب محمد الذي رجاه أن ينفذ طلبه ثم نظر شريف لـ خالد وقال : أنت أول مرة ليك؟
هز خالد رأسه، وقال شريف باستسلام :طيب ده علشانك بس يا محمد باشا إنت عارف إن أنا مبحبش أكسر القواعد بس أنت برضه عارف غلاوتك عندي .
ابتسم محمد لشريف و معبرًا عن امتنانه، قال شريف :ماشي يا سيدي خده طيب في مكتبك وأنا هخلص اللي برا دول وأجيلك.
ابتسم محمد في امتنان و أخذ خالد وبطاقته وخرج واتجها إلى مكتبه و طلب محمد شايًا له و لخالد.
قال خالد :مش عارف أشكرك إزاي يا محمد باشا.
- محمد بس يا لودا عيب عليك ده إحنا اصحاب.
وأخذ يستفسر عن خالد وأحواله و تبادلا الأخبار حتى قال محمد بعتاب: إنت إيه اللي وداك هناك يا خالد إنت ابن ناس يا ابني ، وأنا مكنتش أعرف عنك كدا في الكلية إيه اللي حصل؟
نظر خالد في الأرض وقال :لو قولتلك هتصدقني؟
رجع محمد على كرسيه وقال مشجعًا : قول وأنا هصدق.
- حب
- إيه؟
- بدور على حب
- نعم يا أخويا؟
***********
يا تخين يا فشلة يا شكل القلة.
يا تخين يا فشلة يا شكل القلة.
يقولها طفلان ملحنان لها و هما يدوران حول فتى سمين جالس على مقعد في باحة مدرسة يضع الطفل وجهه في شطنته مثل النعامة الدافنة رأسها في التراب لا يريد أن يراهم أ و يسمعهم .
- سيبوه إنتو وحشين.
تقولها فتاة صغيرة ذات شعر مضفر يلتفت الطفلان لها قائلان : وإنتي مالك ملكيش دعوة٠
- هقول للميس لو مبطلتوش.
-قوليلها إحنا مبنخافش.
تجري الفتاة بينما يكمل صغيري الضبع وصلة التنمر
عادت الفتاة بعد دقائق قليلة ومعها مدرسة في يدها خرزانة رفيعة تضاهي الأولاد الصغار طولا لتفاجئ أحد الأولاد بضربة على مؤخرته، قفز بعدها و هو يتألم.
نظروا إلى الأستاذة في خوف وأخذوا في الفرار قالت المدرسة تصيح بهما : ماشي لما أشوف وشكو تاني بس ..
وأكملت المعلمة طريقها لم تلتفت للفتى أصلا هي فقط أتت بسبب إلحاح الطفلة رفع الفتى عينيه المليئتان بالدموع إلى الفتاة ووقف حاملًا حقيبته ومشى في سكوت
عائدًا إلى فصله ومضى يومه طبيعيًا بلا أي تحرشات أخرى أو مشاكل، وحين انتهى اليوم و هو في طريق العودة إلى منزله أوقفه صوت رقيق يقول: إنت إستنى !
التفت الفتى ليجد تلك الفتاة التي أنقذته صباحا تجري لتلحق به و تقف بجواره و تقول :إنت ساكن عند الكنيسة صح؟
أحنى الفتى رأسه بأن نعم قالت الفتاة :أنا برضه ساكنة هناك تعالا نروح سوا.
وأمسكت بكمه تجذبه جذبًا خفيفً إلى الطريق ليكمل السير. عدلت وضع حقيبة ظهرها الزهرية و قالت : إنت ليه كنت سايب العيال دول يضايقك؟
- أعمل إيه؟
- متسيبش خالص خالص حد يتريق عليك.
- هيضربوني !
- يبقى لما حد يضايقك إشتكي للميس على طول أنا بعمل كده.
- حاضر
ابتسمت الفتاة وهي تشعر قليلًا بالفخر إنها علمت الفتى شيئا.
- أنت في سنة كام؟
أشار لها الفتى بأصابعه علامة (أولى) ابتسمت الفتاة وقالت : و أنا كمان، أنا إسمي راندا .. إنت إسمك إيه؟
- إسمي خالد.
******************
خالد خالد تعالا نركب القطر تعالا نركب القطر.
تقولها راندا بسعادة بالغة، راندا ابنة الثمان عشرة عامًا ذات الشعر الأسود و العيون السوداء يتبعها خالد ملبيًا رغبتها، اليوم عيد ميلادها لذلك لها الحق في طلب ما تريد.
- راندا لازم القطر يعني؟
- تعالا يا جبان.
و جذبته من يده؛ فوزنه قد قل كثيرا بمساعدتها له فأصبح من السهل اقتياده.
تقطع تذكرتان لهما ويأخذان مقاعدهما، يجلسان متجاورين عينها تشتعل حماسة وفرحة وعينه تشتعل حبًا و لهفة
- جاهز؟
قالتها راندا له بحماسة.
- لأ.
ضحكت راندا كثيرا غير مبالية بخوف رفيقها بدأ القطار التحرك بطيئا يصعد المنحدر و قلب كل منهما يدق أحدهما حماسة و الآخر هيامًا و بعد أن وصل القطار لأعلى المنحدر أخذ في النزول بسرعة كبيرة والكل يصرخ ووسط الصراخ صرخ خالد :
رااندااا باااحبك.
ولكن راندا لم تسمع ذلك بأية حال.
أنهى القطار جولته و خرج الفتية من القطار فرحين منتشين بفورة الأدرينالين في دمائهم، لفت راندا حول نفسها وهي تقول
- دي كانت حاجة واو خالص.
- دي كانت حاجة نيلة حاسس إني عايز اأرجع.
ضحكت راندا و ضربت أنفه باصبعها برفق قائلة : ده إنت خايف وقاعد تنادي عليا فوق كنت بتقول إيه؟
- لا.. لا مكنتش بقول حاجة.
هزت الفتاة كتفاها بلا مبالاه و أكملت سيرها في الملاهي مع صديق صباها خالد.
و بعد يوم حافل من اللعب و المرح قررًا أخيرًا العودة للمنزل، ركبا الاتوبيس و ترجلا في أقرب نقطة لمنزلهما وأثناء السير و الكلام و الضحك تنهدت راندا قائلة : هتوحشني أوي يا خالد.
- هوحشك؟
- خالد إحنا هنسافر.
تراقص قلب خالد في صدره وجلا و قال :هتروحو فين و هتيجو إمتى؟
- هنسافر أستراليا، بابا جاله عقد عمل هناك بيقول هنقعد خمس سنين و نيجي.
وقع قلب خالد في قدمه وقال بدهشة: خمسة ؟ ياااه كتير أوي !
مش عايزة أسافر بس هعمل إيه يعني قولتلهم أقعد مع ندى أختي بس هما مش راضيين.
مع ٱني عارفة ادإن لا هي ولا جوزها هيرفضوا.
- طب و الدراسة ؟
- هكملها هناك.
- طب وانا؟
- إنت إيه؟
استدرك خالد نفسه وقال :وأنا هتوحشيني قوي.
نظرت له بحنان و قالت :وإنت كمان يا لودي
و أكملا طريقهما صامتين ، صعدت راندا أولًا إلى منزلها و بعدها خالد إلى منزله الذي يقع على بعد أربعة مبان فقط من منزلها ، دخل إلى غرفته وارتمى على السرير يشعر في صدره بانقباض شديد.
************
- لا واحدة واحدة عليا كده و عيد تاني.
قالها محمد لخالد، اعتدل خالد في كرسيه وقال :
أنا كنت رايح اسأل على ندى أخت راندا على حسب منا فاكر يعني كانت ساكنة هناك فتحتلي الباب الست اللي شبه ميمي شكيب دي، قولتلها مدام ندى موجودة؟ ضحكت وقالتلي جوا و مستنياك قولتلها و هيا عرفت إزاي إن أنا جاي؟ قالتلي قلبها بيحس يا قلبي، و سحبتني من إيدي و دخلتني الشقة و لقيتها وخداني أوضة وقالتلي الدفع مقدم الساعة بمتين.
قال محمد بصوت خفيض :متين دي أسعارها مولعة.
- بتقول إيه؟
- لا لا ولا حاجة كمل كمل.
- لسة بقولها دفع إيه حضرتك فاهمة غلط، كان الباب بيتكسر و بتجرجر في الشارع.
ضحك محمد على هذه الصدفة الغريبة التي حمل بحسه الأمني شكا لها، معتقدا أن ربما خالد يكذب ليجمل نفسه فقط.
- هيا قالتلك إن ندى عندها
- آه
- طيب اسمها ندى إيه ؟
- ندى بشر
استدعى محمد أحد العساكر و طلب منه الذهاب و التأكد من وجود ندى بشر بالحجز و إن وجدها يحضرها لهم.
غاب العسكري لدقائق و عاد و معه امرأة ترتدي ملابس سافرة و وقفت أمامهم.
قال محمد : أهي ندى اللي إنت عايزها.
كان خالد مصدومًا في الأساس منذ أدرك موقفه، و عادت الصدمة مجددًا، الآن وهو يقف أمام ندى اخت راندا.
لم يستطع خالد قول شيء، نظرت المرأة إلى محمد و خالد وهي لا تفهم لما هي هنا بالأساس، لم يستطع خالد التفوه بكلمة حاول محمد حثه قائلًا:
ندى ، أ ستاذ خالد كان عايز يسألك شوية اسئلة.
نظر محمد لخالد الذي أخذ يستجمع شجاعته و يقول : أنا.. احم أنا كنت بسأل عن أختك.
- مالها يا باشا؟
- أنا كنت عايز أوصلها بس مش أكتر.
- أختي ملهاش دعوة بالسكة بتاعتي يا باشا لو عايز حاجة خدها مني أنا.
- لا لا يا مدام ندى إنتي فاهمة غلط أنا مش قاصد حاجة وحشة ، أنا كنت جاركم زمان قبل ما تتجوزي من حوالي خمستاشر سنة فاكرة ؟
- خمستاشر سنة إيه ؟ أنا متجوزتش أصلا.
- إيه؟
- مش حضرتك ندى بشر
- بشير يا بيه إسمي ندى بشير
وضع محمد يده على وجهه لا بملل لا يعلم هل العسكري من أخطأ النطق، أم هي من أخطأت السمع، استدعى العسكري مرة أخرى و قال :خدها نزلها الحجز خدها نزلها خدكو إنتو الاتنين ربنا
و نظر محمد إلى خالد مجددا و قال :إنت متأكد ان ده العنوان ؟
- آه ..أنا فاكر لأني روحت معاهم في الزفة.
- روحت أول امبارح يعني؟ ما اهو الكلام ده كان من خمستاشر سنة، ده إنت مفتكرتش شكل الست و لخبطت ما بينها و بين الولية دي هتفتكر المكان؟
زفر خالد في يأس و قال :هحاول تاني وادور.
- طب وشقتهم القديمة ؟
- اتباعت أصلًا، منا قولتلك نزل باع الشقة ورجع تاني، أنا على مدار سنتين كنت بروح الشقة واخبط على الباب على أمل إني ألاقيها. ما انت عارف، و جيت معايا مرتين تلاتة واحنا في الجامعة لحد ما في السنة اللي إنت حولت فيها شرطة الباب اتفتح و عرفت بقى اللي حصل
- طب ما هم ممكن يكونو لسة في استراليا إيش عرفك إنها رجعت مصر يعني؟
- مش مهم هنا ولا هناك أنا محتاج أقولها إني بحبها.
ضحك محمد قليلًا وقال :فاكر يلا لما كنت آخد الأشعار اللي كنت بتكتبها لراندا و أغير في الاسم و اديها للبت سارة اللي كنت ماشي معاها على أساس إني كاتبهم ليها؟
ضحك خالد وقال : فاكر فاكر.
- شوف أهو سارة دي فضلت معاها تلت سنين ثانوي وآداب و شرطة وفي الآخر ولا حاجة، أنا شوفت حالي وهي شافت حالها، فكك من السيرة دي و عيش حياتك بقى و شوف غيرها الدنيا مليانة، و اشمعنى دلوقتي يعني اللي الموضوع فرق فيه، ما بقالك كتير آخرك أشعار و بكاء على الأطلال شوف غيرها و عيش حياتك يا خالد..
ابتسم خالد بسخرية وقال : أنا مليش حياة يا محمد ومفيش وقت أشوف غيرها أنا خلاص خلصت.
- يعني ايه؟
**************
- راندا يا حبيبتي أنا بحبك
بحبك من أول يوم شوفتك فيه واحنا في ابتدائي، بحب كل حاجة فيكي، لما بتضحكي بتشيلني الملايكة بأجنحتها للسما،
لما تبصلي بحس إني شايف النجوم في عينيكي.
لما بتكلميني مبسمعش صوت أنا بسمع مزيكا أحلى ميت مرة من مزيكة عمرو دياب.
راندا أنا بحبك و هفضل طول عمري بحبك.
أحبك حتى تحترق النجوم وحتى تنتهي جميع الهموم.
حبيبك،
خالد
نظر خالد للرسالة بفخر ثم حك رأسه وهو يفكر في البيت الصغير الذي وضعه في نهاية الجواب نصفه مأخوذ من جملة رفعت اسماعيل بطل سلسلة ما وراء الطبيعة الشهيرة ، والآخر اجتهد فيه ليكمله و قرر في نفسه أنه سيعطيها إياه اليوم ، كان متفق أنه سيمر عليها لتذهب لشراء بعض الأشياء الضرورية قبل السفر و قد زودته قبلها بيوم بالقائمة التي يفترض أن تحضرها حتى إن نسيت شيئا يذكرها هو.
لقد اشتريا كل شيء،
ملائات وملابس دافئة لأن الجو في استراليا بارد كما قال أبوها هو في الحقيقة لا يعرف إنما هو التصور العام على أن كل البلاد الغربية برد – برغم أن استراليا في شرق الكوكب في الواقع- إلا أنها في نفس السلة مع أوروبا ، اشتروا أيضا مش و جبن قريش لأن أباها يحبهم، ولن يجدهم هناك، و العديد من الأشياء الأخرى التي لن يحتاجوا إلى ثلثيها على الأقل ولكن خالد رغم ذلك تذكر كل شيء
تذكر البطاريات، و القفازات، و الشالات، و المعلبات، و سلسلة كتب لتعلم الانجليزية، و دستة شرابات، و أشياء أخرى كثيرة ولكنه نسي أو تناسى بالأحرى أهم شيء،
هو أن يعطيها الرسالة.
افترقا بعد أن أوصلها بكل الأشياء التي اشتروها قبل أن تغلق الباب قال: تيجي بكرة نروح سينما؟
- بكرة مش هينفع ورايا ميت حاجة وحاجة مع ماما هنا
- طيب بعد بكرة ؟
- بعد بكرة مسافرين اصلًا ..ميرسي أوي يا لودي تعبتك معايا.
أعقبت كلامها بقبلة على خده طبعت على قلبه.
نزل من عندها وهو يحلق في عوالم من النشوة غير عالم أ و عابئ بما حوله ، فقد لمست حورية الجنان الفتى الفاني ، عاد إلى منزله وهو عازم غدًا على اعطائها الجواب بأي ثمن و بالفعل في اليوم التالي مساءً بعد أن قضى طوال اليوم يشجع نفسه اتجه خالد إلى منزل راندا و دق الباب و فتحت له.
نظر مطولًا في عينيها و الجواب في جيبه يزن أطنانًا و أطنان قالت له : ايه يا ابني مالك مبلم ليه؟
- أنا كنت عايز اام كنت عايز اآه كنت...
- خالد اإخلص عايز إيه ورايا حاجات كتير أوي
- عايز عيش
- عيش؟
- أصل بابا نسي يجيب عيش معاه و أنا عايز اتعشى ومفيش عيش
- حاضر ثانية واحدة.
غابت راندا في لدقائق و في يدها كيس به بضع أرغفة ووضعت معه بضع ثمرات من المانجو قالت: علشان تحلي بعد الأكل.
- شكرًا.
- خالد أنا همشي بكرة الصبح عايزة أسلم عليك قبل ما امشي.
- أكيد.
عاد إلى منزله وقد قرر أنه سيعطيها غدًا الجواب قبل سفرها.
لم يستطع خالد النوم ليلتها وظل مستيقظ حتى أشرق الصباح ، جلس في الشرفة وتثائب قليلًا، كلها سويعات و ترحل راندا، عليه أن يكون متواجدًا لوداعها و لاعطائها الجواب لكن جفونه كانت ثقيلة جدًا قرر أن يعود للسرير فقط ليريح جسده لكن سيظل مستيقظًا و بالطبع لم يستطع و راح خالد في النوم ليستيقظ على صوت أمه توقظه: خالد يا خالد قوم يا واد
- إيه يا ماما سيبيني
- راندا صاحبتك مسافرة عايزة تسلم عليك قبل ما تمشي
- راندا؟!
قالها و انتفض من مكانه و هو يجري بالملابس الداخلية إلى الباب فتح الباب ووقف أمامها، ضحكت راندا فنظر إلى نفسه وشعر بالخجل، اعتذر منها و غاب لدقيقة وعاد مرتديًا جلباب قالت له بعتاب :كنت فكراك هتنساني.
- أنا منمتش والله خوفت لمصحاش بس معرفش إزاي راحت عليا نومة.
- عمومًا يا عم أنا أحسن منك أهو وجاية ادأسلم عليك.
سطع شيء مباغت في عقله قال :راندا استني ثانية في حاجة عايز أديهالك.
عاد وهو يهرع إلى غرفته وأمسك الجواب بيده و هم بالخروج ولكن كأن حائط خفي قد اصطدم به لا يستطيع أن يخبرها لكنه قرر أن عليه ألا يفعل ذلك ماذا إن أحبت شخصًا آخر هناك؟ ولكن عليها أن تعلم أنه يحبها ولكن ماذا إن لم تكن تحبه؟ ماذا إن ضحكت أو سخرت منه؟ والاسوأ ماذا لو غضبت؟ أو نادت أمه و اشتكت لها ؟ كلها أسئلة عصفت بعقل خالد حتى رمى الرسالة أرضًا و بحث عن أي شيء يعطيه لها فلم يجد غير مصحف ليدهم ادأعطاه لها شكرته، و طبعت قبلة على جبينه و رحلت.
***************
سرطان!! عندك سرطان؟
هز خالد رأسه بأن نعم.
- أكيد في حل.
- سرطان رئة وفي مراحل متقدمة الدكتور قالي على بروتكولات وسفر وعلاج آخرها هتطول عمري سنتين تلاتة.
- يا خالد خلي إيمانك في ربنا كبير.
- و نعم بالله أنا لازم أعمل كده يا محمد أنا مفيش حد في حياتي حبيته غيرها لو هموت فأنا مش عايز أموت وانا كان نفسي أقول حاجة.
- أنا معاك يا صاحبي إنها مهمة ليك بس إنت عندك واحد وتلاتين سنة وهيا هتلاقيها من سنك هيا كمان افرض متجوزة أو مخطوبة أو حتى عملت عملية وقلبت راجل؟
لم يضحك خالد على المزحة فعاد محمد ليقول : افرض معرفتش توصلها ؟
- هوصلها أنا عارف إني هوصل أرجوك يا محمد لو تقدر تساعدني بحاجة ساعدني .
حك محمد رأسه في تفكير فأضاف خالد : ده ممكن يكون آخر طلب اطلبه منك في حياتي حرفيًا..
أشعل محمد سيجارة وسحب دخانها بنهم، هو لا يريد رجاءً، فبلا أي رجاء من خالد سيوافق.
إنه آخر طلب يطلبه منه صديقه، صديقه الذي شبه يحتضر !
أي رجل يستطيع أن يرفض طلبًا في مثل هذا الموقف ؟!
مال على خالد جسده وقال: هساعدك متقلقش، ورحمة أبويا ما هيعدي أسبوع غير و قرار البت دي عندك.
ابتسم خالد في رضا فأكمل محمد: بص أنا همشي على محورين، أول حاجة هبعت ناس يعملو تحريات عن ندى بشر. عايزك بس تكتبلي اسم المنطقة و أي حاجة فاكرها عن البيت و اسم جوزها لو تفتكر.
و عقب ذلك الكلام بإعطائه ورقة وقلم و أخذ خالد يكتب بينما محمد يكمل كلامه :أما المحور التاني فأنا عندي ناس في الجوازات هخليهم بالحب كده يشوفوا كام واحدة اسمها راندا بشر؟ و جاية من أستراليا وآخر مرة جت إمتى ؟ و موجودة في مصر ولا لأ؟ و نقارن بالسن و المواصفات لحد ما نوصلها لو هنا في مصر ولا لأ هنوصلها متقلقش.
ابتسم خالد فأخيرًا وجد شخصًا يسانده.
- لقيتهالك يا سيدي.
قالها محمد على الهاتف لخالد الذي أخذت ضربات قلبه في الخفقان و اندفع الأدرينالين يعيث فسادًا في انتظام نفسه
- بجد؟
- آه لقيت واحدة بالاسم ده دخلت مصر من سنتين بس ببسبور أسترالي و أثبتت فيه الباسبور المصري و عرفت كمان إنها خرجت من مصر من حوالي خمستاشر سنة و السن برضه مناسب فأنا بنسبة مية في المية متأكد إن دي راندا بشر
- محمد أنا حاسس إن قلبي هيقف.
قال محمد بقلق حقيقي : إنت فين طيب أوديك المستشفى
- لا لا أنا تمام تمام متقلقش، طيب مكنش مذكور إنها متجوزة؟
صمت محمد قليلًا وقال :للأسف ..
و صمت قليلًا ثم أكمل : للأسف لا. و اخذ في الضحك.
شعر خالد كأنه صعد إلى السماء ثم هبط إلى أسفل أرض وعاد للسماء مرة اخرى في لعبة لعينة.
- طب عنوانها فين بسرعة؟
صمت محمد هذه المرة أيضًا لبرهة قبل أن يقول: مش هقولك عليه.
- إخلص يا محمد بقى متهزرش.
- لا بجد مش هقولك عليه غير لما تجيب مصحف و تصورلي نفسك و إنت بتحلف عليه إنك بعد ما تخلص مشوارك هتبدأ في العلاج.
- العلاج مش هي...
- ولا متهريش إبعتلي فيديو على الإيميل بتاعي فيه الي قولتلك عليه هبعتلك العنوان على طول.
فنفذ خالد الأمر مسرعًا بلا تباطئ.
(16 شارع شريف وسط البلد الدور التالت شقة رقم 5)
أعاد خالد قرائة العنوان مجددًا و يتأكد من رقم العمارة أمامه توكل على الله و تقدم لم يجد بوابًا فلم يجد من يسأله، تقدم وصعد للدور الثالث وأمام الباب الذي يحمل رقم 5 فوقه توقف قليلًا و كل خلية في جسده ترتعش. تمر السنين ويظل القط قطًا، دق الباب بطرقات مترددة وانتظر.
بعد برهة فتحت الباب فتاة سوداء الشعر و العيون وقفت أمامه وقالت
- نعم؟
لم يجب خالد وظل على حاله متسمر في مكانه يحدق بها بذهول فشعرت الفتاة بالقلق و أغلقت الباب قليلًا وهي تسأل: عايز إيه يا استاذ؟
قال خالد بحلق جاف لدرجة أنه شعر أن الكلام يخرج جارحًا فمه : از.. از...ازيك يا راندا؟
ضيقت راندا عينيها فقد شعرت أن هذا الوجه مألوف جدًا
- أنا خالد جار...
لم يكد يكمل قوله خالد حتى كانت راندا قد فتحت الباب على مصراعيه و اخذت خالد بالحضن وهي تصيح :مش ممكن خالد سيد ؟!!
ابتعدت عنه قليلًا و هي تنظر في عينيه و على وجهها أكثر الإبتسامات عذوبة قائلةً : إزيك وحشتني جدااا، تعالى تعالى
اقتادته من يده الى الداخل واجلسته على الكرسي و جلست مقابلته وقالت: إنت وحشتني جدًا، إحكيلي بقى عن حياتك أخبارك إيه ؟ عايزة أعرف كل حاجة عنك.
- أنا كويس، إنتي عاملة ايه؟
- لا لا كويس إيه ؟ أنا عايزة بالتفصيل عايزة أعرف في السنين اللي كنت بعيده عنك فيها، أعرف كل حاجة عنك، إحكيلي. إحكي بتشتغل فين؟ عايش فين؟ حياتك عاملة إزاي ؟ اتجوزت ولا لا؟
- لسة
- أحسن يا شيخ سيبك ده حتى...
و قطعت كلامها بغتتة وقالت : ألا صحيح إنت عرفت عنواني إزاي ؟
- بعدين بعدين هبقى أقولك المهم دلوقتي في حاجة لازم تعرفيها.
اعتدلت راندا في إهتمام ، فأكمل :أنا من سنين كنت خايف، كنت جبان، كان في حاجات كثير أوي المفروض اعملها زمان و معملتهاش، ألف كلمة المفروض تتقال ومتقلتش، ألف شعور كان لازم أعبر عنه ومعبرتش، خوفي كان أكبر مني، خوفي ضيع أكتر حاجة حبيتها في حياتي. راندا أنا كان في حاجة كان المفروض اديهالك زمان بس مديتهالكيش لازم تاخديها النهاردة، النهاردة لازم تعرفي حقيق...
قطع كلامه عندما رأى امرأة شقراء خرجت إلى الصالة وهي ترتدي روب وتجفف شعرها فكما يبدو كانت تستحم ولكن الروب كان مفتوحا ولم يكن أسفله شيء.
وضع خالد عينه في الأرض فيما ارتبكت الفتاة وأغلقت الروب وقالت بالإنجليزية أنها لم تعلم أن لديهم ضيوف، و أنه يستطيع النظر الآن.
نظر لها خالد و ابتسم في خجل فمدت يدها لتسلم عليه و اخبرته أن اسمها بيلا، حبيبة راندا.
تجاهل خالد يد الفتاة المسماة بيلا الممدودة إليه و نظر لراندا وقال : إيه ؟
ابتسمت راندا في عدم ارتياح وقالت : أنا و بيلا بنحب بعض و يعني عايشين مع بعض و كنا متجوزين في أستراليا أومال إنت فاكر أنا خدت الجنسية ازاي؟
ارتسمت الحيرة على وجهه بينما الصدمة هي ملكة المشهد بداخله.
أكملت راندا
- أنا عارفة إنك مكنتش تعرف عني كده، مفاجأة أنا آسفة.
قالت الأخيرة باحراج وارتباك واضح و لكي تحاول تحريك الجمود المسيطر حولها لخالد: آه ألا صحيح إنت بتقول في حاجة المفروض آخدها .
وصفقت بيدها في افتعال و قالت: يا ترى لودا جايبلي إييه؟
خالد قد انهار من الداخل بينما هي تتحدث أصلًا !
إذا دخلنا إلى نفسه لوجدنا مبانٍ محطمة وشوارع مهدمة كمدينة ضربت بالف مدفع ثم قصفت بألف طائرة والقى عليها قنبلة نووية ،فقط أشياء مسحوقة.
أخذ خالد في الضحك؛ فضحكت راندا معه بينما ابتسمت بيلا التي لا تفهم شيئا. أخذ يضحك حتى أصبح الأمر غير مريح إطلاقاً و استمر في الضحك وقال بين ضحكاته: يا ريتها كانت قلبت راجل يا محمد.
وقهقه عاليًا بعد جملته هذه و أخرج من جيبه الجواب الذي كتبه منذ خمس عشرة عامًا لها، وأخذ يمزق منه قطعًا صغيرة و يلقيه عليها وهو يضحك.
تمت
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق