=أمي ألا زلتِ تذكرين ذلك الطبيب ؟!
قالت كلماتها بعد صخبٍ دام لساعات بسبب الأطفال، فكان سؤالها الحل الأمثل للحصول على بعض الهدوء.
ولكن السؤال كان ولا يزال مصدر الصخب الموجع بداخل تلك التى لا زال قلبها يتذكر رغم السنوات
-لا زلت أتذكر...
تنفست الصعداء بعد أن توجهت عيونهم التى لا زالت تحمل بريق الصبا نحوها، وقد بدأ الألم يحدد تلك الخطوط التى رسمتها أيام الشقاء على وجنتيها وجبهتها لتكمل :
-كانت بداية سنة هجرية جديدة، الجميع احتفل وخرج إلى الشوارع رغما عن أنف شمس أغسطس الحارقة، في ذلك المساء ترافق
موت الشمس مع ولادة حياتي الجديدة.
سقط قلبي أسيرا بعد أعوامٍ طوالٍ من تحرر بلادي، كنت آنذاك بعمر العشرين، أنا وقريناتي كان لدينا ما لم يكن لأمهاتنا، ولكن شتان بين ذكريات أمي وذكريات جدتي، أمي كانت أسيرة مسماها الأنثوي، أنا سومري ابنة بيار... أمي كانت لا تغادر المنزل سوى برفقة جدي ومن بعده والدي. والدي الذي تزوجها وهي بعمر الثالثة عشر؛ لأن بلادنا في ذلك الوقت لم تكن تسمح لمن هن إناث بالتعليم أو العمل او حتى إظهار هويتهن، فكان اللون الأسود هو كل المتاح لهن.
ولكنني ومن هن من جيلي كنا نعيش حياةً أفضل بفضل الكثيرين ممن ضحوا، أقربهن إليّ هي مالالا ؛ تلك الفارسة الشجاعة تحت برقعٍ فرضته عصابةٌ محتلة عليها وعلى قريناتها في ذلك الوقت.
ولكن الصمود كان هو دائما الحل ونحن كنا نعيش أفضل بسببهن.
كان يمكننا أن نحب ونختار أزواجنا، ونسمح لشمس أفغانستان أن تلمس وجوهنا العارية من برقع الارهاب ذاك.
كانت الأيام تسير رقيقة وحفل زفافي قد اقترب من طبيب قلبي الذي استطاع أسره منذ تقدم لخطبتي.
لكن أسبوع واحد فقط كان كافيًا لتدمير كل هذا !!
التفتت إليهم وقد تجمعت دموع الألم بمقلتيها ترافقها تلك الغصة المنبعثة من جوف قلبها الذي شاخ في صباه.
تناولت منديلا لتستطيع إكمال حديثها وسط تلك الأنهار المالحة التى تجمعت أمام عويناتها، ولا زال الحشد الطفولي يلتف حول مقعدها تتعلق أبصارهم بجدتهم صاحبة الجدائل الفضية كما كانوا يسمونها بينهم:
- كان اسمه محمد... كان رقيقا طيب القلب ومجتهد كان يكبرني بعامين فقط... كان حالما... لقد تمنى دائما أن يكون زفافنا فخمًا وأن نسكن في أرقى أماكن كابول.
وفي صباحٍ عادي انتهى كل هذا... عاد الكابوس الذي عاشته أمي إلى الأفغان ... لقد عادوا يحملون الأسلحة والسيوف ويطلقون شعرهم واللحى.
لا يعلمون عن الإسلام إلا أن يقتلوا باسم الجهاد.
وهنا خارت قوى صمتها، وجهادها أمام تلك الذكريات لسنين لم يعد مضنيًا فأطلقت العنان للبحة في صوتها ولدموع الغصة، علها تجد الراحة ولو لساعات
- اقتحم إرهابيو طالبان بيوتنا وشوارعنا ونصَّبوا أنفسهم حكامًا ومشرعين، الأمر كان كأن الله أذن لميكائيل أن ينفخ لقيام الساعة.
وأملنا الوحيد كان تلك الطائرة... أوهموهم أنهم سيجدون الأمان إذا ما حلقوا معهم في سفينة نواه (نوح) ولكنها كانت المهلكة بالنسبة لي.
صباح أول يوم اثنين من تلك السنة لزم الجميع بيوتهم إلا أولئك الذين وثقوا بأصحاب وشم النجوم الخمسين، وصدقوهم بأنهم سيجدون المآمن والمطعم في بلادهم.
لم أكن أعلم أنني في مساء الأحد سأفكر في فستان زفافي وفي صباح الاثنين ستنتهي روحي.
= أمي... أتريدين الاستراحة في غرفتكِ؟!
قاطع هذا السؤال سيل ذكرياتها الذى لا يزال طعمه علقمًا رغم السنين.
حاولت إيفا ثني والدتها عن الحديث فهي تشعر أنها أذنبت بسؤالها ولكن فاجأها صراخ الأطفال الذين يطوقون مجلس جدتهم في إنصات وحماس
_ لا يا جدتي
• أجل جدتي .. أكملي قصة الطبيب
تناوبت نظرات سومري بين إيفا وأطفالها ، ولكنها قررت إنهاء صراخهم والسماح لقلبها بالبوح بعد سنين
- لا تقلقي يا ابنتي سأكمل لهم ثم أنام... حسنا يا صغار
لم يكن محمد يطمع بحياة أفضل له فقط، ولكنه كان يأمل توفير فرصة أفضل لأمه وأبيه ولي أيضا بعد زواجنا، في ذلك الصباح تجمع كل سكان كابول بجوار طائرة من بلاد ما وراء المحيط، مكانٌ كان يسمى أميركا كان جيشها هو المسيطر على أفغانستان في ذلك الوقت، ولكن ما إن عادت طالبان حتى انسحبت قوات الجيش وغادروا هاربين، ولكنهم أرادوا إظهار تعاطفهم الزائف ومنحوا الأفغان فرصةً للهرب معهم على متن طائرة حربية لنقل الأسلحة.
الأمر كان أن الأعداد توافدت بالآلاف، وكان محمد لا يزال خارج الطائرة حتى أقلعت أمام أبصار كل من فقد أمله في الهرب، بعد دقائق كان طبيبي لا يزال خارج الطائرة لكنه بقي متشبثا بجناح أحلامه وآماله حتى سقط...
=هل كان يطير يا جدتي ؟
ومع هذا السؤال ترافقت ضحكات سومري ودموعها
-لا يا صغيرتي لقد سقط من السماء كأنه غيثٌ لا زال قلبي يفتقده... بين الغيوم وأرض أفغانستان فاضت روحه الطيبة إلى خالقه مودعا قلبي وأحلامه.
وفي مساء ذات اليوم استطاع والداه تجميع جثمانه رغم فظاعة التصور لما حدث.
دفن في قريته ومسقط رأسه ولم أستطع سوى أن أدفنه داخل دهاليز قلبي ليبقى هو ملاكي الأول ومنتظري فوق سماواتٍ سبع .
لقد كنا نحب أفغانستان بكل ذرةٍ ونبضةٍ داخلنا، ولكن ربما هي لم تحبنا يومًا .
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق