-->

أم المعارف ( ج ١ )- قصة- نوير يوسف ‏

 

واصل السير لساعات ، المياه تكاد تنفد . و الشمس تخترق رأسه و تُسيل العرق على لحيته . هل الإحداثيات كاذبة؟! هل خدعته كما يفعل الآخرون؟! لكن كان متيقنًا أنها ليست ممّن يفعل ذلك . أتبع السير حتى دخلت إلى مرمى ناظريه . جزء لم تدفنه الرمال في باطنها كان ظاهرًا لم تبتلعه بعد . إتجه هو و من معه من فيلق الحفر إلى هناك . ترجل من على جمله ثم أخرج من حقيبته مبلغًا من المال لا بأس به أعطاه لرجل منهم . فتبدلت ملامحهم بعد أن كان الضجر يعتليها ، و صاح من أخذ المال و وضعه في جيبه :
_ هيا يا رجال! لا تدعوه ينتظر كثيرًا .
ابتسم " أدهم " حينها ابتسامة صفراء ، و قام بفرش منامته ، ثم مكث بداخلها ، و أغلق عينيه . ما أجمل النوم حين يأتيك بعد كَبَد!
_ أستاذ أدهم! هيا استيقظ .
قالها و هو يهز جسده برفق ، فقام " أدهم " من منامته يفرك عيناه متأففًا فرأى المكتبة كاملة .. مكتبة أم المعارف تقف أمامه و الرمال تكسوها . كان للمكتبة بنايتين طويلتين تشبه المئذنة ، و كان باب حديدي يتوسطها . نهض من منامته سريعًا و قال و هو يرتدي منظاره :
_ مهمتكم تنتهي هنا ، شكرًا لكم .
ثم وضع مبلغًا آخر في جيب نفس الرجل ذا الشارب الكث ، و ودعوه ثم امتطوا جمالهم و رحلوا .

* * * *
يوم الأحد ....
حين تنتهي العطلة الأسبوعية و تستيقظ من الصباح الباكر . فتذهب إلى الحمام و تتناول فطورك في مرحلة من اللا وعي ، و يصبح كلام الناس عبارة عن همهمات لا تدري كنهها . عندما تغادر المنزل فترى اللون الأزرق في السماء يلطّخه خيط ذهبي من ضوء الشمس . آنذاك كان " أدهم " يسير بين الحاضرين في اشمئزاز . سحب كرسيًا ثم خلع حقيبة ظهره و جلس ثم أرخى ظهره عليه .  وحيدًا كان يرمق حشد الطلاب في سأم . تساءل عدة مرات لِمَ هو ليس فردًا من أي جماعة أو " شلّة " في تلك الجامعة ، لماذا يظل وحيدًا كذبابة دلفت إلى منزل ثم أُوصدت نوافذه . أسئلة وجودية لا ترى إجابات لها ، تنجح فقط في جعل شعرك ينتصب . ارتدى حقيبة ظهره ثم دلف إلى كليته ليلحق بالمحاضرة .
_ من بنى مراكب الشمس؟!
قالها الأستاذ و هو يرفع منظاره السميك ليلامس حاجبيه المعقودين . فنهض " أدهم " من جلسته فقال و قد ارتسم على ثغره ابتسامة ثقة :
_ الملك تحتمس الثالث .
فانفجر الجميع بضحك مكتوم ، و التفت ليرى الجانب الآخر فرأى فتاتين تتهامسان و تشير إحداها إليه بسبابتها ثم تضع يدها على فمها لتواري ضحكها عنه . قال الأستاذ و هو يرفع منظاره تارة أخرى :
_ فلتجلس يا " أدهم " ، و لتكن تلك آخر مرة أراك تجاوب فيها . ثم ضحك هو الآخر و استطرد :
_ و بالطبع كما تعلمون فالإجابة هي " الملك خوفو " .
جلس " أدهم " يستمع إلى باقي المحاضرة بوجه ممتعض ، أحلام اليقظة تفتح أبوابها لتعلن عن انتهاء ذلك الملل . كان يتخيل أستاذه محصورًا في ركن و هو يسدد له اللكمات إلى أن تختفي ملامح وجهه . حتى قاطعه ذات الصوت الذي ينفث السم عبر كلماته :
_ أدهم! ماذا قلتُ للتو؟!
هرش " أدهم " رأسه ثم أخذ يفكر هنيهة ، فقال :
_ قلت من بنى مراكب الشمس؟!
_ خارج المحاضرة يا " أدهم " ، إن لم تكن أهلًا للعلم فلا تطلبه .
كذا صاح في مكبر الصوت و قد احمرت أذناه . لملم
" أدهم " أغراضه ثم غادر في ضجر . إتجه إلى المقصف ليبتاع رغيفين من الخبر مع السجق . ثم جلس على ذات الكرسي يأكل في لا مبالاة . تطرأ إلى مسامعه صوت رقيق يناديه :
_ أدهم! أهذا أنت؟!
التفت ليرى من يناديه ، فشعر بقلبه يخفق كالطبل . فقال و هو يلوك الخبز :
_ فاطمة! أهلًا بك ، تفضلي .
فجلست بثيابها الفضفاضة بجانبه ، و أخرجت كتابًا من حقيبتها :
_ إنظر إلى تلك المكتبة يا " أدهم " ، إنها ...
أمعن النظر في الصورة كأن شيئا ما قد تذكره ، فقال :
_ نعم أعرفها! قد راودني حلم عنها من قبل .
_ حلم! و ماذا رأيت؟!
تنهد هنيهة ، ثم استطرد :
_ أرى أناسًا يحفرون ، و جزء من المكتبة فقط من لم تبتلعه الرمال .
_ إن ذلك الكتاب لهو دليل للوصول إلى تلك المكتبة ، فلتحتفظ به إن أردت أن تجعل الحلم رؤية .
عقد " أدهم " حاجباه ، ثم قال :
_ و لكن إن كانت إحداثيات موقعها في الكتب ، فلم لم يكتشفها أحد إلى الآن؟!
أزاحت خصلات شعرها وراء أذنها ، فأردفت في كياسة :
_ إن الكتاب له نسخة واحدة هي التي بين يدي ، و أبي قد عثر عليه في رحلة استكشافية . ألا تلاحظ اهتراء صفحاته و لونها الباهت؟!
_ نعم ألحظ ، لكن لماذا أنا من تعطيني إياه؟!
أطبق الصمت عليها هنيهة ، فقالت و هي تنظر إلى ساعة يدها :
_ عليّ الذهاب محاضرتي تبدأ بعد خمس دقائق ، الكتاب أمانتك الآن ... ألقاك لاحقًا .
أكمل طعامه و هو يتصفح الكتاب ، محاضرته على وشك البدء . لكنه أزمع على الرحيل .

* * * *
تحت لهيب مصباح الكيروسين المتراقص . حيث يكون المصباح هو الشعلة التي تدنس ظلام الغرفة . و بينما تستمر العناكب في نسج خيوطها و الجرذان تهرع إلى الظلام مبتعدة عن ضوء المصباح . كان بمنظاره البني عاكفًا على قراءة المخطوطات و العرق يسيل من جبينه . يُنهي مخطوطة فيقوم ليُلقي بها بعيدًا و بمنديله يزيل عرقه ، ثم يُخرج دفتره الصغير و يدون بقلمه الأزرق ذو السن المدبب أهم ما في المخطوطة بخط مبعثر . ثم يعود ليجلس على مقعده الخشبي يتناول من على الطاولة مخطوطة أخرى بعد أن أزال التراب المحتشد عليها . أنهاها فظل يقرأ واحدة تلو الأخرى حتى أنهى سلسلة المخطوطات التي كان يرنو لقراءتها . إتجه بعد ذلك إلى مجموعة الوثائق التالية على الرّف و الصداع يعتصره و الحماس يقتله . أخذ المجموعة و اتجه إلى الطاولة بخطًا تترنح . كان يشعر بالخوف يزحف نحوه في تؤدة حين يسمع صوت جرذ يعبث بكرسيّه ، لكن لا وقت لمشاعر حمقاء أن  تتملّكه . أنهى الوثائق ثم أخذ خارطة من على الرف المجاور و غادر . كانت الريح تهب بقوة فشعر برجفة تسري في عروقه . القمر كان قد اكتمل بدرًا و النجوم تتلألأ في الفضاء الواسع ، فقال محدثًا نفسه :
_ ليلة صافية كقلب من أحب .

* * * *
يوم الاثنين ...
حين تكون قد فطنت أخيرًا إلى حقيقة أن عطلتك قد انتهت ، فتتقبل الحقيقة كاملة . و تذهب إلى الحمام بخطًا تترنح . و كلام الناس الذي لا تسمع منه سوى همهمات تبدأ في ترجمته إلى جمل مفهومة . يوم الاثنين حين تقول أن قليلًا من التأخير لا بأس به إن كان في سبيل راحتك . فتغادر المنزل و تصل إلى الجامعة متأخرًا نصف ساعة . رأى " أدهم " أن اليوم قد حان لأخذ المبادرة ، إما أن يعيش رفيقًا للسعادة ، أو أن يجثم الحزن على قلبه إلى أن يأتي أجله . تقدم إلى الجامعة ببنطاله الأزرق و قميصه الأبيض يجلس على ذات الكرسي ، فرأى " فاطمة " تدنو منه لتجلس بجانبه . فقال :
_ كيف حالك؟!
_ بخير ، و أنتِ؟!
رتب أفكاره قبل أن يتحدث ، ثم قال :
_ أنا بخير .. في الواقع كنت أريد أن نتحدث .
نظرت إلى ساعة يدها :
_ فليكن .
تنهد هنيهة ، ثم أردف :
_ كنتي دائمًا مؤنسة وحدتي ، و رفيقة دربي . و في الحقيقة أنا ...
احمرت وجنتيها ، فقالت في خجل :
_ أنت .. ماذا؟!
_ أريد أودعك قبل أذهب إلى أم المعارف ، و أيضًا أنا .. أحبك .
* * * *
كان الجمل بانتظار " أدهم " حين خرج من المكتبة و معه الخارطة . امتطى جمله ثم أخرج  كتابه و البوصلة من الحقيبة . ثم بقدمه ركل الجمل ركلة خفيفة مرامها أن يتحرك . فتح " أدهم " غطاء القنينة ثم شرب منها بعض الماء بينما الجمل كان قد وصل إلى فيلق الحفر .  ترجل من جمله ، فحياهم :
_ السلام عليكم .
فتقدم أحد الرجال منهم :
_ و عليكم السلام ، محسوبك إبراهيم . تفضل معي .
ثم اصطحبه إلى خيمة هنالك ، فدلف إليها . كان بها فراش ، و الطعام البدوي - طبق ضخم من الأرز تتوسطه
الكيلوات من اللحم ، و قنينة من الماء . قال إبراهيم :
_ ستستريح هنا الليلة .
ثم تركه و عقد الستارتين ببعضهما ليغلق الخيمة . جلس " أدهم " على الفراش ثم قرب الطبق منه و اللعاب يسيل من فيه . و بالطبع اليد هي الأداة التي يؤكل بها هنا ، لا ملاعق و لا شوك .
أنهى عشاءه و بالقنينة غسل فمه ، ثم تدثر بالغطاء لينعم ببعض النوم .
بدّل القمر و الشمس دورهما الأزلي ، فأرسلت الشمس إشعاعها معلنة أن الوقت قد حان للإستيقاظ . فقام
" أدهم " من فراشه ، و امتطى الجمل ليعود إلى بلدته و معقل داره . و كان قد وصل حين بلغ الهزيع الأخير من الليل . أولج المفتاح في رتاج الباب ، و دلف إلى المنزل فقام بتغيير ملابسه . و ارتمى على فراشه ، إرهاق و تعب شديد يتملكانه . لكن بعض النوم قد يفي بالغرض ...
* * * *
في صباح اليوم التالي ....
دلف " أدهم " إلى الجامعة يحمل معه الخارطة ، و هناك كانت تجلس فاطمة و وجهها يعبق بذلك الجمال الساحر.
فأقبل إليها " أدهم " ، و قال مداعبًا لها :
_ أهلًا يا وردة البستان .
رقمتة بنظرة استخفاف ، فقالت :
_ فاشل حتى في المداعبة ، فلتجلس .
_ لكِ ذلك ، أحداث كثيرة قد جرت في رحلتي . علي السفر إلى " منغوليا " لتحقيق الإكتشاف الأكبر .

* * * *

TAG

عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *