أسميتها فاطمة - شهد السيسي
ندى العُمر
نوفمبر 04, 2021
بزغَ الفجرُ كقبلة في ثغرِ الصباح الباسم فكشفَ اللثامَ عن سحبٍ بيضاءٍ مرتصّةٍ كعقد من اللؤلؤ يزيّن صفحةَ السماءِ ذات الصفاءِ الأديمِ، هنا دلفَ "سُهيل"(١) يهيئ سيفه البرّاق، يعد عُدَّته و عتَادَه في حذرٍ شديدٍ؛ خشيةً إيقاظ زوجته "عائشة" و صبيانه الأربعة على إثر رحيله لموقعة "صفين" دون إخبارهم بالأمر برِمته، حتى سُوِّيت الأعتدة جيدًا، و غادر "سهيل" مُهتَدِيًا بضوء القمر، باتت الحربُ تسعة أيامٍ مُتوالِية، كانت حِملًا وَخْمًا على "عائشة" ظنّته لن يعود؛ فقد رحلَ عنها فجأةً، لا تدري إلى أين، لا تدري متى سيعود، و تخشى ألا يعود، كانت توّد أن تبلغه بشأن حملها الخامس؛ فقد اقتربت أن توضِع مولودهما الخامس، عسى أن يكون صبيًا، لكن هيهات صارت الدموعُ لها سلاحًا فتّاكًا، فهو مرمى للضعفاء و راية المستسلمين، غياب "سُهيل" طالَ، دامَ نائيًا عنها تسعة أيامٍ ليلةً تلو أخرى، قد حسبَته هجرها، تخلّى عنها، أعرض عنها، و سئم من تربية الفتيان، مرَّ يومًا بعد يومٍ، بلغَ الإسبوعُ خِتامَه في الليلةِ العاشرةٍ، بغتةً بُغِتت الزوجة بما لن تكن تتوقعه ريثما وثب "سُهيل" على مرمى بصرها، لم تنبس ببنت شفة حتى هرولت صوبه كعدّاءٍ في سباقٍ، تلمّسته بكفّيها في حنوٍّ، أمطرته بنظراتٍ تملؤها الحنين للحبيب النائي، ثم عانقته عناقًا حارًّا دامَ لبضعٍ من الدقائق، لكنه لم يكن على ما يرام، عجزَ عن رؤيتها، ارتطمَ أرضًا تارةً، و أخذ يتحسس الجدران تارةً أخرى، حتى استوقفته "عائشة" قائلةً:
- وَيحَك يا "سُهيل"؟ هل أنتَ على ما يرام؟ و لمَ تلكَ العصاه التي تتوكأ عليها؟
لم ينبس الزوج ببنت شفة لكن تأرجحت دمعةٌ في مُقلتيه التقتها بكفِّه في الحال، لقد فقد "سُهيل" بصره إبان المعركة، وقع عليها أمر فقدان بصره موقعًا سقيمًا، هُزَّت أطرافها، داهمتها الإوجاع و الأسقام برهةً، انتفض جسدُها كأنّ تيارًا كهربائيًا قد سرى في جُل خلاياه، كأنّ لسانَ برقٍ امتدَّ من السماءِ مخترقًا جدران الدار، إذما وطأت قدماه الدار، دلف الفتيان نحوه في لطفٍ بالغٍ، التفوا حوله كحلقةٍ مُوصَدةٍ في إحكامٍ جارفٍ، البشارةُ عمَّت أرجاء المكان بأكمله، مشاعر الألفة تحتويهم، و تطوّقهم كحلقة لا يطأها دخيلٌ و لا يبلغها غريبٌ، هالة من الغبطة تجتاحُ المنزل و تتسلل إلى أوصالهم جميعًا، دام الفرح دوامًا، ظلّت نظراتهم منبعًا مشاعرٍ فياضةٍ بهائل الدلال، باتَ الجميعُ مُلِحًّا عليه البوح عن سبب غيابه طيلة الأيام القلائل الماضية حتى أدرك الصبيان فقدان أبيهم لبصره! حينها انقلبت الموازين كفةً رأسًا على عقبٍ، هالةٌ كئيبةٌ ملأت سويداء قلوبهم، غمرَتهم وجدًا عوضًا عن النجوى، تتصارعُ العبراتُ على حافة جفنيهم، لكن يأبى الجميع أن يطلق سراحهن، قصَّ "سُهيل" عليهم أمر الموقعة و ما حدث خلالها فور فقدانِه لعينيه، ارتمت بين ذراعيه "عائشة" و أجهشت بالبكاء، تابعَها الأولاد مُنتحبين بكاءً، خُتِمت الليلةُ المُكفهَرةُ بواقعةٍ مأساويةٍ أطفأت أسارير الفرحة للتوّ.
مرَّت الليالي و ضُحاها واحدةً تلو الأخرى، فالأيام أصبحت أسابيع، و الأسابيع تتالت، فصارت أشهرًا، إن الأمرَ وصل إلى حدٍ لم يعد مقبولًا البتة! سيلٌ من الذكريات يتدفقُ بقوةٍ، يمزقُ نياطَ موطن الأسرار -ألا و هو قلب الزوجة المُنفطِر- في المُقابل فُطِن عقلها، قالت "عائشة" في قرارة نفسها:
- لا يتشارك المرء همَّه إلا ممن يعرف بيقين إنه يحبّه! كيف لي الآلية له و هو في تلك الحالة التي يرثى لها؟ لا يهُمني الأمر ما دمتُ أحبّه! أدعو الله أن يردَّ لكَ بصرَك يا سُهيل.
ليتها تشاركه الحزن العابق في أوصالها، قد تآكل قلبها فصار فُتاتًا تفتت غبارًا و سقط حطامًا، إنما حزنها لن يتبدد كليًا بل اشتدّ رويدًا رويدًا، عكفت "عائشة" على تهذيب أولادها طيلة وضعها لمولودِها الموعودِ، عاونت "سُهيل" الجزيل من المعاونة، قد صارت أمًا و أبًا في ذات الوقت، ترعى صبيانها، تجني قوت عملها في إعداد لفائف الخبز للأنام، تتابعت الأيام على ذاك الحال، ثم حلَّ موعدُ وضع المولود، إذ و هي فتاة لا فتى! حينئذٍ تسارعت نبضات قلب "عائشة"؛ خشيةً من "سُهيل" فهو يكره الفتيات يظنّهن عارًا لاحقًا بالأسرة إن أُنجِبت! لكن استعادت "عائشة" رباطة جأشها و همّت تخبره:
- ألم أخذ منكَ المُباركة يا سُهيل؟
التفتَ إليها الزوج في تؤدةٍ مُتسائلًا عن جنس المولود:
- هل أتيتِ لي بوليّ العهد الخامس يا عائشة؟
تمتمت "عائشة" في صوتٍ خافتٍ مُتشبثٍ بأهدابِ أملٍ هزيلٍ:
- كلا يا سُهيل.. أنجبتُ فتاةً! أرجوك لا تتذمر! هذه مشيئة الله من منّا يتدخل في حكمِ الله يا سُهيل؟ ألا تودّ أن تحملها و لو قليلًا؟
استحال وجهه بركانًا مُغمرًا حممًا بركانيةً حين غضب مُردِفًا:
- تعلمين كم أبغض الفتيات! هذه ليست ابنتي بل ليلي الأسود و لا أعرف كنهها، تلك كلمتي يا عائشة لن أعترف بها مهما صار و مهما كلفني الأمر! أتسمعينني؟ هذه ليلي الأسود.. ليلي الأسود!
رمقته في حزنٍ و قرأت على وجهه الحزن ذاته، أومأت برأسها إيجابًا في طوعٍ مُستطرِدةً:
- كما تريد يا سُهيل، لكن أنا لن أتخلَّ عن بُنيِتي!
أشاحَ "سُهيل" بوجهه عنها بعيدًا، و لم ينبس ببنت شفة، كأنه مُتعمدٌ تجاهله، ثم تابعت "عائشة" في الاستطراد في حديثها:
- ليكن في معرفتِكَ يا سُهيل هذه الفتاة أسميتها فاطمة؛ فهي ليست نكرةً و إنما هي ابنتي!
ثم انصرفت "عائشة" حاملةً "فاطمة" بين ذراعيها و كأنّ على صدرِها حِملٌ لا بدَّ الانعتاقُ عنه، أخذت تعتني بها ليالٍ و ليالٍ
إن فاجَأتكَ اللّيالي بما يسوءُ فصَبْرًا (٢)
والدهرُ يُرهِقُ عُسرًا و يُتبِعُ العُسرَ يُسرًا
لو دامَ ما ساءَ مِنْهُ لدامَ ما كانَ سَرًّا
ظلّت الليالي تغدو ليلةً تلو الأخرى، شابَ "سُهيل" فتآكل رأسه شيبًا حال لونه ثلجًا أشعثًا، شاخَ كهولًا لا يستطيع إعالة ذاته بمفرده، بعدما كبرَ الصبيان صاروا شبابًا ريوعًا، اقترنَ الشباب الأربعة زوجاتهم، تركوا أباهم الضرير وحدِه دون معاونته على المعيشة، كلُّ واحدٍ منهم انشغل في حياته الخاصة بعيدًا عن والدهم الكهول، أما عن "عائشة" فقد انتقلت إلى الرفيق الأعلى، حضرها الموتُ، و أسلمَت روحها بيد خالقها، بات "سُهيل" وحيدًا بعدما فارقته زوجته و رفيقة دربه بمفردِه، انخلعَ قلبُه لرحيلها لأبد الآبدين، بينما "فاطمة" أمسيت في العقد الثاني من عُمرِها، تزوجت بشابٍ صالحٍ أيضًا، لكن عندما بُلِّغت بما حلَّ لأمها من وفاتها، علمت أن أباها بمفردِه في الدار، همَّت له بخُطى حثيثةٍ، هرولت إليه سريعًا، باتت ترعاه كمثل أمها، صارت له أمًا عندما فارقه الجميع في مِحنته، واظبت على معاونته، أجارته دومًا، نظفت له ثيابه، أعدَّت له بضعًا من أشهى الطعام، ظلّت تداوم المجيء له يوميًا تكفّلت بإعالتِه كُليًا، لم تتركه في حالته المُزرية، كانت تُطعِمه بكفّيها، طببته خير تطبيب، سهرَت معه الليالي لتطمئن عليه، يومًا ما و في ليلة غمرها وشاح الضباب، انبثقَ قوسُ المطرِ يزيّن صفحةَ السماءِ، و يصافحُ خطَ الأفقِ مُتدثِرًا برداءٍ يكسوه الظلام الداسم، كانت "فاطمة" كعادتها تأتي لوالدها بأطيب الطعام، تنظف و تجلّي ملابسه، و عندها كانت في تلك الآونة تطببه بالدواء حينها شدَّ على ساعدِها مُتسائلًا في هدوءٍ:
- من أنتِ يا فتاة الجود؟
رمته بنظراتٍ تشي بالكثير من المعاني، و كأنّ مشاعرًا شتّى اجتاحت نياط قلبها و مزّقته شر تمزيق بحقٍ! طالعته بنظرةٍ سقطت في عمق لجاج عينيها ذابت بعض أوجاعها بدموعها الحارّة، فقد ارتوى القلبُ بالقلبِ، و سكنت إليه، حتى استجمعت حواسها للإصغاء شيئًا فشيئًا فقد داهمتها نغزةُ ألمٍ ساحقةٌ تسحقُ سويداء قلبها إربًا إربًا؛ فقد وقعت تلك الكلمة منه موقعًا بليغًا في نفسها، ثم ران عليهما الصمت للحظاتٍ لو ألقى أحدهم إبرة لاستمع الجميع لرنينها، و كأن الوهن قد أصابها بغتةً، اخترقت فقاعة الصمت التي كانا لائذيّن بها مُغمغِمةً في خفوتٍ:
- أنا ليلك الأسود يا أبي..
قد غامت على وجهها سحابة من الأسى، و نخر قلبَها الحزنُ بلا هوادة، بادلها "سُهيل" المشاعر عينها، فقد تحطمَ قلبه لما طرأ على مسامِعه للتوّ، و التفتَ صوبها في آليةٍ يتحسسُ وجهها و يمسّد على شعرِها في حنانٍ، لقد علمَ أنها "فاطمة" و قد تجمّعت الدمعاتُ في مُقلتيه لكنه يأبى إطلاق سراحهن، ثم انهمرت دموعهما سويًا حينما أردف في وجلٍ:
- سامحيني يا بُنيتي على ما فعلتُ بكِ، أطلبُ منكِ العفو! ليت الليالي كلها سود.. ليت الليالي كلها سود!
ثم عانقها بقوةٍ، تلك المرة الأولى التي يعانقها بين ذراعيه منذ ولادتها، و أجهش معها بالبكاء مُنشِدًا قصيدةً ذات معانٍ مؤثِرةٍ و مُبكِيةٍ تحمل في طيّاتِها الخزى و الشجى:
ليت الليالي كلها سود دام الهنا بسود الليالي(٣)
لو الزمان بعمري يعود لأحبها أول و تالي
ما غيرها يبرني و يعود ينشد عن سواتي و حالي
و إلا أبد ما عني منشود لولاها و أعزي لحالي
كن الغلا و البِر مفقود كل غدا بدنياه سالي
ما غير ريح المِسك و العود بنتي بكل يومٍ قبالي
يا رب يا مالك يا معبود تقسم لها الرزق الحلال
صرتُ بسبايب ليلي محسود أثري الهنا بسود الليالي
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق