-->

فودو - نوَير يوسف

 كما توجد اليين ، فاليانج أيضًا موجودة . و كما يوجد النور فالظلام حتمًا موجود . و الشمس و القمر ، الخير و الشر . كلها عناصر تجعل الحياة مستساغة الطعم . و إن اختفى إحداهم لإختل التوازن ، و لظلّ ... _ أحسنت يا " ويلي " فليكفي ذلك القدر . قالها " أورويل " في امتعاض و هو يلوّك لفافة تبغ ، ليستطرد " ويلي " : _ لا مستحيل! " زفايج " مولع بالتفكير الفلسفي ، أليس كذلك يا " زفايج " ؟! مطّ " زفايج " شفتاه ، ثم قال : _ للمرة الأخيرة يا " ويلي " ، أنا لا أعبأ بذاك الهراء الفلسفي . فجلس على مقعده يقرأ كتابًا لأرسطو ، ثم قال في اشمئزاز : _ مكاني ليس بينكم . جَثَمَ الصمت على المكان هنيهة ، فدوى صوت من معدة " أورويل " ليكسر حاجز الصمت . هرع " أورويل " إلى المرحاض ليتقيأ . و بعد بضع ثوان كان قد أفرغ ما في معدته . ثم عاد إليهم بخطًا تترنح و هو يحمل قدحًا من الشاي ، فقال " زفايج " في ضجر : _ أحدهم ممسوس بأرسطو ، و الآخر يعبث به دوار البحر كما يشاء . جلس " أورويل " غير عابئ بما يقول . رشف رشفة و هو يرمق الشاطئ ، فقال " ويلي " : _ الشمس قد أشرقت و أنارت الظلمات كما تفعل منذ الأزل ، و اليخت يزحف نحو الشاطئ ليُسفر عن الوصول إلى وجهتنا . ألا ترون في ذلك ما يبعث التفاؤل في روحكم؟! _ في الواقع قد فقدت تفاؤلي منذ مدة لا بأس بها ، و أنا هنا حتى أستعيده تارة أخرى . نزل من اليخت و هو يُحكم قبضته على حقيبة ظهره ، ثم أردف " زفايج " : _ أو ننتهي نحن الاثنين . كانت الدمى تصطف و هي معلقة بالحبال ، و الحبال تلتف كالأفعى حول أشجار ذابلة . كان " ويلي " قد أوجس خيفة و هو يرمق الوجه المحترق لدمية ما . أخرج " أورويل " من حقيبته قلمًا ثم بدأ يَسْطُر على دفتره : _ تقدم " ويلي " أمامنا ليعلن أنه من سيقود المسيرة . و خلفه كان " زفايج " يُشعل لفافة تبغ و أخذ ينفث دخانها في تلذّذ . إن كان " زفايج " يتمتع بشئ في حياته فهي بالتأكيد تلك اللفافات القذرة . لو نجوت اليوم بدون سرطان رئة ، لسوف أطالب بتسجيلي فردًا من محظوظي الأرض . كل هذا على قدر ما هو هراء ، فهو طبيعي . لكن شيئًا قد قفز لنا من عالم الميتافيزيقيا ، و جعل " زفايج " - مدّعي الصلابة - تهتز أوصاله كذيل جَرْو . إن لم أكن واهمًا فإن تلك الدمية تومئ إلىّ بيدها كي آتي إليها! تراجعت عدة خطوات للوراء لاصطدم في "ويلي". فقال و قد عقد حاجباه : _ ماذا دهاك؟! قلت و قد تسارعت أنفاسي : _ ويلي! ألم تلحظ؟! _ في الواقع لا . قال " زفايج " و هو يدعس لفافة تبغ بلا هوادة بعد أن أنهاها : _ الدمى هنا ليست كاللتي يتأنق بها منزلك ، إنها تختلف قليلًا . استظل " أورويل " بشجرة - تقبع بجانبها دمية متفحمة الرأس - ثم أغلق دفتره . احتسى شايه ثم ألقى بالكوب . قال محرقة السجائر " زفايج " : _ إذن فلنتبع ما تشير إليه الدمى . ثم أردف و على ثغره ابتسامة شيطانية : _ فلنتبعهن إلى الجحيم إن أردن ذلك . كانت كلمات قد أوجس " ويلي " خيفة منها ، لكنه آثر ألا يُظهر ذلك ، و أن يحافظ على هندامه . أخرج " أورويل " دفتره و بقلمه سطر : _ يتلذذ بالسجائر ، و بِجَعل " ويلي " يرتعد أيضًا . * * * * _ إلى الأمام ... ثم إلى اليسار ... ثم إلى الأمام تارة أخرى ... ثم إلى اليمين قد كانت آخر دمية أوصلتنا . و على شجرة قد أرخيت ظهري . حين أحتاج إلى وقت أطول للراحة أشعر حقًا أني قد صرت شيخًا ، و حين يتساقط شعري على دفتري - منذرًا أني بصدد صلع قريب - و أنا أسرد أحداث الرحلة أشعر حقًا أن الموت بات قريبًا . قسط من الراحة الآن لن يضيرنا في شئ ، و في وقت لاحق بإمكاني إزالة الشعر من على أوراق الدفتر . أما الآن فعلي اغتنام قسط الراحة بالطريقة المثلى . أظن أنكم قد مللتم من ما يحدث في جزيرة الدمى ، فلم لا نتحدث عن " لماذا ذهبنا إلى هناك " ؟ ببساطة نحن الثلاثة أعضاء في فيلق إستكشاف .. و قد جمعتنا - لسوء الحظ - تلك المهمة الخرقاء . فيلق الاستكشاف بإمكانك أن تطلق عليهم رحالة أيضا ؛ فقد كانت لي زيارة لقلعة " فراكنشتاين " . و رأيت مومياء " دراكيولا " التي تنبعث منها رائحة عطنة . و إنني لأرى في نفسي رحّالًا عظيمًا ... هذه المرة لم يغلق دفتره ، بل خبأه وسط حشائش متوسطة القامة حين رأى سيلًا من الناس يندفعون نحوهم . كان " ويلي " يرتجف كورقة و صوت اصطكاك أسنانه يتعالى . و " زفايج " كان قد أخذ وضعية التأهب ، و الدم قد صعد إلى رأسه حتى كاد يفيض من أذنيه . أما " أورويل " فقد اختبأ وراء شجرة كالجرو . و بصوت خفيض قال : _ زفايج! القتال ليس الحل صدقني . _ أنت كالحثالة . قالها " زفايج " و هو يمط شفتاه في اشمئزاز . تقدم أمامه اثنان فأخذ يسدد لهما اللكمات . واحد تلو الآخر يتساقط أمام " زفايج " دامي الأنف ، أو بوجه اختفت ملامحه عن الوجدان . لكن " زفايج " قد توقف عن القتال ، و جثى على الأرض بأنفاس متسارعة و يده تمسك بصدره . غصة في الصدر ناجمة عن مئات لفافات التبغ . قاموا بتكبيله بحبال غليظة ، و من ورائه قام أحدهم بركله فاستوى على الأرض . و بشئ بدائي أشبه بالمقص استأصل خصلات من شعره . ثم وضع من خصلات شعره الكستنائية في كيس من الجلد ثم عقده بإحكام . تسمرا في مكانهما و هما يرمقان " زفايج " يسير مطأطئ الرأس في مذلة .. تصلبا في مكانهما و هما يرمقان نيران الغضب تتأجج في عينيه فكان "ويلي" يجاهد في عدم تبليل سرواله . حتى سار بعيدًا و بات من العسير رؤيته . و بصوت " أورويل " الخفيض الرتيب همس : _ ويلي! أقبل إلي . فأتاه و هو يسير على أنامل قدميه حتى لا تصدر الحشائش صوتا . فهمس " أورويل " : _ أشجار الخيزران توجد بوفرة هنا ، و أعتقد أنها سلاح لا بأس به . _ سلاح! لماذا؟! _ لأننا لن نترك زفايج و نهرب كالجراء ، فلتكن رجلا يا ويلي … فلتكن كذلك و لو لمرة . أخذ عود خيزران ثم قال بامتعاض : _ أنا رجل رغما عن أنفك . _ إذن فلنذهب . _ لكن كيف سنصل ؟ قال أورويل و قد اعتلى الضجر وجهه : _ حقيقة لا أعلم كيف تم تعيينك في الفيلق . و أشار بسبابته إلى دمية استقرت الإبر في عينيها : _ الدمى هي بوصلة الجزيرة فلنتبع ما تشير إليه لنصل . بضع دقائق كانت كفيلة للوصول إلى مقرهم الذي لم يكن ببعيد . انبطحا فكانت الحشائش تغطيهم . كان زفايج ما زال مكبلا و قد التف حول خصره حبل يربطه بشجرة . و أمامه كان رجل حليق الرأس يطلق سيلا من العبارات لم يتبينوا كنهها . و في يده كانت دمية خصلات شعرها الكستنائية تنسدل لتلامس ظهرها ، فقال أورويل : _ أليس ذلك شعر زفايج؟! _ بل أسوأ من ذلك … إنه سحر دمى الفودو! تنهد هنيهة ، ثم أردف : _ سيلقي بها في النيران الآن ، و لسوف يحترق معها زفايج حتى يتفحم . باختصار تلك الدمية هي تجسيد لزفايج . و لحسن الحظ فهو طقس فردي لا يسمح لأحد بالتواجد حين يتم ؛ لأنه سيستخدم بعد ذلك فن النكرومانسي . لكن لا داعي للثرثرة في هذا الفن الآن . _ هذا جيد ، فلنسرع إذن . زحفا نحو من يمسك بالدمية ، ثم نهض أورويل و بعصا الخيزران سدد له ضربة جعلت أعصاب يده تتراخى ، و الدمية تسقط من يديه لتحتضن نيرانا ستنتشل روح زفايج من جسده . أكمل أورويل سيل الضربات على جسد الساحر بينما ويلي ينتزع الدمية بعصاه . و زفايج يحمر جسده و على وجهه ترتسم اعتى أمارات العذاب و رائحة الدخان تنبعث منه . و بآخر ما بقى للساحر من قوة صاح : _ دخلاء! فانطلق الحراس - ذوي السراويل المصنوعة من أوراق الشجر - وراءهم . و قام ويلي بفك الحبال المعقود بها زفايج بسن حاد في طرف عصاه ، ثم هرعا خلف أورويل بعد أن أخذ زفايج دميته . ثم قال و هو يمسك بذراعيه الملتهبين : _ فلنتوغل داخل أكبر مجموعة أشجار ، و لسوف ترشدنا الدمى عن أماكنهم . و بذلك يمكننا يمكننا تفاديهم . _ فليكن . أتبعوا الركض حتى كان المخرج أمام ناظريهم ، و اليخت يرمقهم في انتظار . صعدوا درجات السلم بأنفاس لاهثة ثم سحبوها داخل اليخت . و قام السائق بالإبحار .. لكن " أورويل " قد نسي دفتره !! * * * *
TAG

عن الكاتب :

ليست هناك تعليقات

إرسال تعليق

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *